فَزَعت السيمِيائيّات التصويريّة إلى محجّ الذاتيّة، وكأنّها قَلَبَت للموضوعيّة وللمعياريّة ظَهْرَ المِجَنِّ، فصار المنعطف التصويريّ (الظاهراتي) من جميل المعالم اللافتة في تاريخها النظريّ المعاصر الذي أحدث اختراقًا محمودًا في سُمْك السياج الإبستيميّ للسيميائيّات البنويّة الصلبة. وهي لا تتوجّس خيفة من أن تفقد صرامتها العلميّة إنْ هي ضربت صفحًا عن وثوقيّة الالتزام بصلابة " مبدأ المحايثة" الذي يتلبّسه الوهم في طلب المعنى، والذي لا يمسك به في العالم الخارجي، ولا في الذات في انفصامها عن العالم، بل في الوعي بشيء ما. وهذا جوهر القصديّة. ومن محاسن تطوّر السيميائيّات أنّها أعادت النظر في العلاقة المرنة التي تربط المكوّن السرديّ بالمكوّن الخطابيّ، وفتحت نوافذها المؤصدة ورتاجها المغلقة لرياح الظاهراتيّة فتحًا كريمًا، فحصل لنا الاعتقاد الراسخ من أنّ بين السيمِيائيّات والظاهراتيّة رَحِمًا عملنا على تعزيزه، ووصلا لم نتوان في تقويّته، وتراحمت كذلك مع بعض الأطاريح في علم النفس تعميمًا، وعلم النفس الإدراكيّ تخصيصًا؛ لأنّ منطلق السيمِيائيّات كان في المبتدى والمنتهى ظاهراتيًا، وسيؤول ليكون معرفيًا. ونميل إلى الاعتقاد بعد طول نظر أنه كلام يصحّ، ودعوى تثبت. وسبق أن تدبّر كريماص فيها إشكاليّة المرجع، فجعل العالم الطبيعيّ لغة، وصيّره موضوعًا سيمِيائيًا قابَلًا للتعامل معه على أنه تشكيل لغويّ؛ ولكنّه لم ينته إلى وضوح فيما عرض له، فأغفل موضوع العوالم الممكنة وعلاقتها بعوالم التخيّيل، وتعامل مع البنية على أنّها كيان مجرّد وفارغ وجب ملؤه بنسيج العالم. وهو ما يجرّد الكينونة من العيش في العالم. وقد غُصْنا على مسائلها تحدونا الإرادة والعزم في تعقّب جليل فوائدها، وقضينا عِشْرة ليست بالقضيرة مع رواية (سيّدات القمر) قبل أن تعرف طريقها إلى الشهرة، وتنال حظّها من الجوائز العالمية، وتتهافت عليها دور النشر لترجمتها إلى لغات عديدة.
Share message here, إقرأ المزيد
السيميائيات التصويرية : قراءة في عوالم سيدات القمر