حيثما جرى الحديث عن العمى فهو حديث عن الإبهام والإلتباس، وحيثما وقع الحديث عن الإبصار فهو حديث عن الكشف والظهور، وقد تكون تلك مغالطة، فما كل ضرير بفاقدٍ الرؤيا، وليس كل مبصر بحائز الرؤية، فالأولى تبصر داخليِّ بالأحداث واستكناه لجوهرها، فما الثانية إسقاط البصر على الأشياء والإكتفاء بما تراه العين منها.
وقد أثمرت الرؤيا معرفةً تأويليّة اعتمدت على التقدير والتخمين، وكشف المعاني الخفية والمقاصد الإحتمالية، وذلك هو قوام الأدب، حيث يقين الخيال الخصب لا يقين الأهواء المضطربة، فيما أفضت الرؤية إلى معرفة وصفيّة غايتها الوقوف على الأشياء، ورسم صورها الخارجيّة؛ فالظفر برؤيا ثاقبة خير من رؤية كليلة، وفيما يحتمل حدوث تخليط في الرؤية، فمن المحال أن يغيب الصواب عن الرؤيا التي نجمت البصيرة عنها، لأنّ البصيرة ضرب من الفطِنة والفراسة وقوّة الحجّة، فهي تتخطى مستوى البصر لتغوص في منطقة الإستبصار والإبانة، فتتوارى معاني الحجب والإستتار والإخفاء، يتطلّع كتاب "عين الشمس" إلى الوقوف على قضية الحجب والكشف بإعتبارهما وجهين للجهل والمعرفة عند العميان والمبصرين على حدِّ سواء، وليس من غايته إبطال فرضيّة وتأكيد أخرى، بل هو ترحّل ثقافيّ حرِّ في طيّات ثقافة الإبصار والعمى، بما يكشف أنّها ثقافة متنوّعة لا تقترن بالبصر أو إنعدامه، بل بحضور البصيرة أو غيابها.
وقد يُفهم من الكتاب أنه انتصار للعمى على حساب البصر، فلا تعدّ تلك مثلية فيه إن رشح منه شيء من ذلك، فغايته الإحتفاء بالبصيرة التي توارت عن المبصرين، وكأنّها غربت عن عالمهم.
Share message here, إقرأ المزيد
عين الشمس : ثنائية الإبصار والعمى من هوميروس إلى بورخيس