يُطلق الشاعر المغربي نزار كربوط خياله إلى أوسع مدى، حتى ليكاد القارئ يظن أن الواقع هو مجرد خيال، أو أن الخيال كلما اتسع، كلما عبر بشكل أكثر عمقاً وحيوية عن الواقع! وربما يكون هذا هو ديدن الشعر أساساً، بتعريف ما من تعريفاته. قد لا تمر جملة على امتداد الديوان لا تنطوي على تعبير "غريب" أو مجاز بعيد، أو صورة. ساعده على تحقيق ذلك ثروة لغوية واضحة ولا تحتاج أي دليل لإثباتها، فهي بارزة بامتياز وعلى نحو مكثف:
"عندما تُعيدونَ هذه الأرضَ إلى أوَّلِ السَّطر
لا تَنسَوا كتابةَ حياةٍ جديدةٍ على وجهِ المُحيط
ووَضْعَ عِظَامي - العالقةِ بين أسنانِ الوقتِ - في آخرِ المُعادلة
أنا المسافرُ بين قوسَيْن
باحثاً عن المجهولِ في صَوتِي
وعن المَعلُومِ في نُهُودِ الهندسة".
ديوان يحتفي بـ "أنا" الشاعر احتفاء متواصلاً، إنما ليس على طريقة الفخر بالنفس، إنما بنوع من النشيد الذاتي الذي ينطلق من خلفية ثقافية ترى أن الشعر يقوم على اكتشاف العالم من منظور شخصي، حيث لابد من إضفاء رؤية خاصة على العالم والأشياء، وقبل ذلك على اللغة:
"أنْ أكونَ خفيفاً مثلَ كمنجةٍ تُوزِّعُ الفرح،
هذَا ما حَلَمْتُ به يومَ زرعتُ نَفْسي في أرضِ الأطلسِ المتوسِّطِ،
وتركتُ وَصيَّتي مدسوسةً تحتَ وِسادةِ أُمِّي مِنْ أجلِ أن تَقرأَهَا أوَّلُ
يدٍ سَتنجُو منْ لَسعةِ المَحوِ.
أو أكونَ مُعلِّماً يحملُ في حقيبتِهِ آلةَ خياطةٍ تُرقِّعُ خرائطَ الأوطان
هذا ما حَلَمْتُ به وأنَا أَجمعُ دَفاترِي القديمةَ، لِأصنَع مِنها قلباً
جديداً مِنْ خمسينَ ورقةً وأصدقاءَ لا يتلوَّنون تَحتَ ضوءِ السّمَارْتفُون،
لأصنَع منها وطناً لَا تُقبَّلُ فيهِ الأيَادي، ولا يَذوبُ سُكَّرُهُ الأشقرُ في
قنواتِ الصرَّفِ الصِّحِّيِّ".
باختصار، هذا ديوان ينحاز للمهمّشين والمتعبين وفاقدي الأمل.