يتناول الكتاب النصَّ الذي أورده أبو حيّان التوحيدي في كتابه "الإمتاع والمؤانسة"، حول مناظرة اللغوي أبي سعيد السيرافي، والفيلسوف والمنطقي متى بن يونس. إذ يكشف السيرافي عن وجوه ومناحٍ للغة تُزايل ما كان اصطلح عليه بشأنها مُتفلسفة عصره، فاحتجّ لها على مزاعم الفلسفة اليونانية مُستنداً إلى مبدأ عامٍ، هو أنّ اختلاف الفُهوم إنما مردُّه إلى اختلاف الثقافات.
ويُبيّن كون أن السيرافي لم يُعنَ في مناظرته بتطويرنموذج فلسفي للغة، نستطيع من خلاله استنباط منظومة من الأفكار الكلّية المتماسكة، التي يمكن أن تقفنا على جوهر مفهوم اللغة، وماهيّتها. على أنّ الأمر متعلّق - أول بدءٍ - بمطارحاته المتتابعة التي ألقاها على مُناظره، ورمى بها إلى دحض ادّعاء موثوقية المعرفة التي أنتجتها الفلسفة اليونانية، ولا سيما علم المنطق.
يكشف عن وجوه ومناحٍ للغة تختلف عمّا اصطلح بشأنه مُتفلسفة عصره
كذلك يُنبّه إلى أنه يمكننا أن نُلفي جانباً جوهرياً في أفكار السيرافي اللغوية التي استعرضها في مطارحاته الخاصة. من ذلك استدلالاته النظرية على سَعة اللغة، وانفتاحها، وتنوّعها في طرائق التعبير تنوّعاً كبيراً، على نحو ما نرى في التعابير البلاغية والشعرية، في مقابل المعنى العقلي المجرّد للفلسفة.
ومّما يلفت إليه الكتاب أيضاً، أنّه ليس بين أيدينا نصّ المناظرة، كما نطق بها السيرافي، بحروفه وعبارته هو نفسه (إذ جاءتنا مرويّة بعبارة التوحيدي). تلك الحقيقة تحدُّ كثيراً من قدرتنا على رصد أطوار تنامي أفكار اللغوي العربي، بكلّ تفاصيلها، وتحرّي تمايزاته الوضعية الحقيقية والمجازية، وعزوها إليه. ولعلّ من المفارقات، كما يوضّح كون، أن السيرافي ذاته رأى أنّ الأفكار المُعبّر عنها بهذه الطريقة لا تبقى بمنأى عن التأثّر بلُغة ناقلها. كما ينظر كون إلى السيرافي على اعتبار أنه ليس معزولاً، بل يُحاور أبا بشر متّى، الذي ربّما اغتُمطَ، واقتُضبت حصّته في المحاورة اقتضاباً جائراً، رغم كونه قد ترجم المنطق الأرسطي، وهو معدود في الأوائل الذين تلقّوا عن الفلسفة اليونانية.