في هذا الكتاب المهم يُقدّم لنا ضياء الدين سَردار حكايته السَردية عن مكة، عبر رحلته في كتب التاريخ وجغرافيا الواقع، إنها رؤية لمكة التي تربّى على حبّها وتوقيرها ثم سنحت له الفرصة بأن يعمل فيها ولها لسنوات، ما أتاح له معرفة حاضرها عن قرب.
لذا فالكتاب ليس مرجعاً تاريخياً بل هو أشبه برواية لسيرة مكة، يقصّها علينا الكاتب مستنداً إلى عدد وافر ومتنوع من المراجع؛ إذ إنه ينتقل بين وقائع التاريخ ويستقي المعلومة من خبرته الفريدة التي عاشها في مكة.
وفي الكتاب رصدٌ لواقع قِبلة المسلمين وما تشهده من تغيير، وتجوالٌ بين المصادر التاريخية من ناحية وفي جنبات مكة وطرقاتها من ناحية أخرى، والتي أقام بها سردار لسنوات حين عمل في مركز أبحاث الحج ووضع دراسات تطوير إدارة مواقع المناسك وأشرف عليها.
مكة مدينةٌ يمكن دراسة أحوالها من منظور علم إجتماع المدن لمقارنتها بمدن أخرى، لكنها ليست كأي مدينة من ناحيتَي المركزية والرمزية الدينية، فالحج ليس سياحية ترفيهية، والأرض ليست سوقاً عقارية، والكعبة ليس سلعة إستهلاكية نروّج لــ "إطلالة عليها" يملكها الغني ولا يقدر على تكلفتها الفقير، والأصل في زيارتها مفارقة الشهوات وترد الملذّات والإستعداد ليوم المعاد، و"شهود المنافع" ليس نزهة تسوق.. بل ترحال تَعَبُد.
يستعرض سردار في كتابه تاريخَ مكة منذ تأسيسها، ويبين لنا كيف إجتاحتها أعاصير النزاعات السياسية قرناً بعد آخر، ثم عصفت بها منافسات العلاقات الإقليمية والدولية في عصور القوة والضعف، فكانت أيضاً موضعاً للتربّص وهدفاً مقصوداً في الحروب والصراع على الشرعية السياسية أو السيطرة على طرق التجارة العالمية.
وحين برزت تيارات العولمة ألقت بثقلها على مدينة مكة وتطويرها وتخطيطها العمراني وتوسعة الحرم فيها بصورة مغايرة لما ينبغي أن تكون عليه حال البلد الحرام وقِبلة المسلمين، من تغييرٍ لوجهها كمدينة حج عالمية بإتجاه تحويلها إلى مدينة عولمة رأسمالية ينطمس فيها البعد الروحي وترتفع ناطحات السحاب، وهو يخالف وبشكلٍ صادم روح مكة ومقاصد الشريعة من جعل البيت الحرام القِبلة والمثابة، والغايات والشعائر من حيث كونها تَجَرداً وذكرى، وكون الحج مسيرة تطهُّر... وتزكية.. وتوحيد.
د. هبه رءوف عزت