تبدو الطبعة الجديدة لرواية "براري الحمى" للكاتب الفلسطيني المعروف "إبراهيم نصرالله" بمثابة إعادة قراءة لهذا العمل تعيد صياغة الواقع وتنظيمه ليشكل بالنسبة للقارئ نسقاً فكرياً أو قراءة أكثر عمقاً للتاريخ الموسوم بحدود الجغرافيا، حتى يبدو العمل الروائي الوسيلة الأفضل للتعبير عن عمق الحياة الحضارية العربية بعيداً عن سطوة الإعلام السائدة اليوم.
في "براري الحمى" ينشغل الروائي بالتعبير عن الفضاء الداخلي للإنسان العربي، هي رواية مقلقة تدور حول سؤال الذات، الغربة والعزلة، الحياة والحلم، الخيال واليقظة، البدايات والنهايات، الشك واليقين كل هذه المفردات يضمها الروائي في قاموسه الممتلئ بخليط فني شعري وأدبي غارق في الإيحاءات، والقدرات المعرفية التي أحالها "نصرالله" في هذا النص إلى مفاهيم وتأويلات عبّر بها عن تلك العوالم المرتبكة في مرحلة ما بعد الحداثة حيث اعتبرها الأدباء "من أدق التجارب الجمالية تشرباً لروح الحداثة، فقد استبطن المؤلف الحداثة استبطاناً كاملاً، وكأنه ولد فيها".
لقد أجاد الروائي في عمله هذا في استخدام تقنية سردية بارعة لذلك التمزق في الوعي والازدواجية التي تعيشها الشخصية الرئيسة في العمل، حيث يتخذ من شخصية المدرس "محمد حماد" إطاراً للتعبير عن الرؤى الداخلية لكينونة الإنسان العربي، يغوص فيها بعمق في فضاء التجربة، تجربة الصحراء حيث تدور أحداث الرواية في "القنفذة" و"سبت شمران"، يأخذك "نصرالله" في شعابها برحلة تتجاوز بها المكان لتعبر معه أعماق الكائنات الحية والجمادات في تلك الصحراء الموحشة.
يقول: "سبت شمران: حجارة موزعة بين تلين من الصخور السوداء، عندما تدخلها يفاجئك القسم الشرقي منها، وأيضاً في أعالي قمة مدججة بالقلاع القديمة، حجارة تلمع كالسكاكين، تخترق صدور العصافير، وزرقة السماء، وقرص الشمس الباحث عن الظل بين البيوت. سبت شمران: سنة من الحزن والدم، سنة من الموت". "براري الحمى" هي أكثر من رواية، وأكثر من تجربة معيشة، هي سؤال المصير ومغزى الحياة، حين قراءتها نتذكر أن الأوهام توجد فوق الأرض والحقائق تسبح في السماء، لا شيء يقيني في هذه الحياة، الشيء الأكيد هو صراع البشر الذي يتوالد في كل لحظة، حيث تتحول عبثية الواقع إلى حكايات تروى؛ إلى حكايات خالصة لا تصلح أن تعاش.