يواصل الشاعر المغربي محمد بنيّس تجربته الثرية في الكتابة الشعرية التي تنطلق من توجهه الخاص ضمن مسيرة "الحداثة العربية" في الشعر، وقد أضفى، باستمرار، أبعاداً رحبةً على نتاجه الذي لم يتوقف ولم يخفت منذ سبعينيات القرن العشرين.
تتجلى "اللغة البيضاء"، وفق تسمية رولان بارت، في هذا الديوان على نحو باذخ، ويُقصد بها تلك اللغة التي تحوي الوجود داخلها، في عملية امتزاج شفافة بين ما هو وجودي وما هو يومي وحاضر، حتى إن العابر يتخذ صفة الديمومة، وكذلك يبدو ما هو دائم كأنه وُجد الآن. ذلك أن الشاعر يتعرف على الكتابة أثناء الكتابة، وعلى العالم والأشياء أثناء الكتابة أيضاً، وفي هذا يتعرف على نفسه ونتعرف عليه، كقرّاء، في الوقت ذاته.
مثلما كتب سابقاً كتاباً عن "الأزرق"، يكتب الآن عن "الهواء"، ويقدم له تعريفات شديدة الاتساع ومتنوعة، إلا أنها متّفقة على تعريف راسخ؛ إنه الحي الذي "لا يشيخ"، كما في هذا المقطع:
"مُتقدّمان في العُمْر نحْنُ، اليومَ، مُتقدّمان. برفْقٍ ننْظرُ
إلى بعْضنا بعْضاً كما لو كُنّا في المرْآةِ ننظُرُ
إلى ما لا يشيخُ، إلى الهواءِ بيْننا. هذا الهواءِ الذي
بالصّبْر ربّيْناهُ على تبْديدِ ما تقسُو به الحياةُ. إخفاقاتٌ
ومآسٍ تتوالَى. هواءُ ابْتسامةٍ في دُروبِ الصمْتِ
ينْتشرُ. أقْبلْ عليْنا أيُّها الهواءُ منْ جميع جهاتِ
القناعةِ. نحنُ الطفْليْن، الوحيديْنِ، الحالميْن
بكَ. أيّها الهواءُ – يا بشارةَ الحياةِ على الأرْضْ".
انطلاقاً من هذه "التيمة" صال الشاعر وجال في موضوعات شتى؛ في الحب والموت والصداقة والشعر والجذور وغيرها... دون أن تضطرب لغته أيما اضطراب، ودون أن يشعر القارئ بأي خلل شعري أو معرفي، فهو يكتب بشعرية ومعرفة وخبرة طويلة.