إن الذي أخذ موضوعة الإنفاق الدائم في الإسلام صوب محطة فكرية وذوقية وسلوكية خاصة، تثبتت أركانها ضمن البنية الثقافية الإسلامية هم (المتصوفة) الذين عبروا بالهبات من دائرة التبادل الظاهري/ الفقهي إلى دائرة التبادل الباطني/ العرفاني، وهم بذلك النحو أسهموا في تقديم منطق تأويلي خاص بتبادل (الهبات) ليس بين الأفراد وبعضهم مع بعض فحسب، بل تجاوز ذلك إلى النذور والقرابين وأشكال الصدقات (الباطنية) الأخرى التي تروم التواصل مع الله تعالى بنحو أخلاقي خاص للغاية وكانت أنثروبولوجيا الإسلام بوصفها تأطيراً نظرياً بالنسبة لنا المدخل المناسب لفهم خصوصية المنطق الصوفي للهبات، فضلاً عن مراجعة المدونة الصوفية.
وإذا كانت أطروحات مارسيل موس ومحمد الحاج سالم تمثل سلسلة معالجات لم تكتمل حلقاتها، لذا قراءتنا الراهنة التي تقدمنا بها نحو الكشف عن (المنطق القدسي) الذي طغى على الهبات لدى مجتمعات إنسانية عدة، وبخاصة داخل المجتمعات الإسلامية بمثابة استكمال لتلك السلسلة، التي ركزنا فيها بالخصوص على تجربة متصوفة الإسلام الذين بلوروا بنحو متكامل دائرة ذلك (المنطق القدسي) الذي حكم موضوعة الهبات.
وأخيراً إن هذا الكتاب يمثل أطروحة فكرية/أنثروبولوجية تسعى لإعادة موضوعة (الهبات) في سياقاتنا الحياتية الراهنة وتبيان مركزية القرآن الكريم الذي كانت آياته الكريمة تدعو باستمرار إلى ديمومة (الإنفاق) الذي تجسد بعملية التبادل (الهبات) بنحوٍ جلي، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الرؤية المتكاملة لأخلاقيات الاقتصاد الإسلامي الذي يمتلك القابلية والاستعداد الدائم لاستيعاب سائر المتغيرات الحياتية الهائلة والتي أصبح فيها الاقتصاد حجر الزاوية، فضلاً عن قابلياته الموضوعية في تقديم بديل أخلاقي/ إنساني لثقافة الاستهلاك وإيديولوجيا (الفردنة) اللتين أطاحتا أخلاقيات السوق الغربي في زمننا المعاصر.