عادة يكون الحنين لما مضى، لأيام خلت، أو لزمن سحيق، أو لتاريخ. إنما هنا، مع الشاعر المغربي عبد الرحيم الخصار، يتحول الحنين لزمن متخيل ربما، قادم، أو قد لا يأتي، بل من المفترض، بنوع من القراءة المتأنية، ألا يأتي! فمثلما أن النوستالجيا عالية الحضور في هذا الديوان، إلا أن ثمة علاقة حميمة مع الأشياء الراهنة، إنما ليست كما هي في الواقع، بل كما يراها الشاعر، الأشياء وقد أضفى عليها لمسة خاصة، عبر مشاعره وأحاسيسه، وعبر رؤيته أيضاً، وقبل ذلك عبر لغته، ما جعلها أشياء "تخصه وحده"، إذا ما استعرنا تعبير فرجينيا وولف! هذه النوسان بين زمن مجهول وحاضر خاص جداً، وشخصي جداً، يتطلب دقة في المفردة، وفي الجملة، وفي النص كاملاً، يتطلب شعرية يقظة. سوف نجد ذلك عندما نقرأ، كمثال:
"أنا نجَّادُ عجوز
وما من أثاثٍ في بيتي.
خُذي ما تشائين من حياتي
اللَّيلَ ودُخانَه
الشَّهوةَ وسُقوفَها
الماءَ الذي يُريقُ الحنين،
ودَعِي لي هذا الفراغَ العظيمَ أَحْضُنْه."
أو في مقطع سردي آخر:
"حَلِّقْ بي إلى القمرِ. تقولُ أُغنيَّةٌ قديمةٌ لفرانك سيناترا. بينما حبالٌ من حديدٍ تشدُّ قدمَيَّ إلى الأرض. البلادُ التي أفردتُ جناحَيَّ لأجلِها، أفردتْ لأجلي سرباً من الغربان. تجلسُ الفاجعةُ أمامي بمعطفِها الشَّتويِّ. تسمعُ فرانك سيناترا وتُذيبُ الحسرةَ في كأس. يوجِعُها اللَّيل. على شفتَيْها ترتعشُ كلمةٌ مبهمة. ومن عينَيْها تسيلُ دمعتان. تعبرُ الردهةَ مُترعةً تتهادى. تدفعُ البابَ وتقفُ تحتَ المصباحِ بمظلَّةٍ مغلقة. حيث الشِّتاءُ مساميرُ من ماء. والحنينُ مطرقةٌ وسَنْدَان".