عندما توفي نور الدين لم تفقد الأمة المشروع بفقدان القائد، فقد جاء صلاح الدين، الذي كان مسكوناً بروح سلفه، ليحقق الجزء الأكبر من مشروع التحرير، مستفيداً من الوحدة. ولكن البيت الأيوبي، الذي قام حكمه أساساً على مشروع الدولة الموحدة والجهاد للتحرير، تناسى المشروع بوفاة صلاح...
عندما توفي نور الدين لم تفقد الأمة المشروع بفقدان القائد، فقد جاء صلاح الدين، الذي كان مسكوناً بروح سلفه، ليحقق الجزء الأكبر من مشروع التحرير، مستفيداً من الوحدة. ولكن البيت الأيوبي، الذي قام حكمه أساساً على مشروع الدولة الموحدة والجهاد للتحرير، تناسى المشروع بوفاة صلاح الدين، وغدت الشام منقسمة، لا تتوحد إلا بتحالفات هشة ضد مصر، ولم يكن صلاح الدين هو من قسم الدولة التي جهد لتوحيدها، ولكن الإقطاع العسكري، وهو النظام السائد وقتها، كان سبب التجزئة، فبوفاة السلطان تتحول الإقطاعيات إلى ممالك، لقد كانت مرحلة الانقسام الأيوبي مرحلة عقيمة على الصُعد كلها، ما منح الفرنجة أعواماً طويلة أخرى، أمضوها في بلادنا، ليس لقوتهم التي ارتَجَّت بعد حطين، بل لضعف الكيانات السياسية الأيوبية وتخاذلها، لكن من جهة أخرى، ومع أن ملوك البيت الأيوبي تخلوا عن السياسة الهجومية للتحرير، فلا بد أن نشير إلى دفاعهم القوي في وجه الفرنجة، حيث تمكنوا من صد حملات كبرى، كان ممكناً أن تقلب وجه الشرق العربي المسلم، وعلينا أن لا نحملهم كل أوزار زمانهم، فقد كانوا جزءاً من مجتمعهم بكل ما فيه من فضائل ونقائص، ومع أن الأيوبيين كانوا أكراداً في أصلهم، فقد عدّوا أنفسهم عرباً بثقافتهم ودينهم، فأحبوا اللغة العربية، وقربوا إليهم الشعراء والأدباء، وعقدوا مجالس الفقه، وكانوا رواة، تسند إليهم بعض الأحاديث الشريفة، كما تميزوا بالبساطة، وربما التقشف، فلم تعرف بلاطاتهم التقاليد الملكية، أو أبهة الملك، إن تاريخ البيت الأيوبي لا يبدو واضحاً من سير ملوكه، أو تدوين أحداثه، بل يحتاج على نحو ضروري إلى دراسة العلاقات الداخلية بين ملوك البيت وسلاطينه وتحليلها، ودور الأمراء، والقوى العسكرية، وشبه العسكرية، وتأثير كل هؤلاء في تلك العلاقات، وهذه هي المزية الجديدة التي انفرد بها هذا الكتاب، والتي لم يتطرق إليها البحث سابقاً وفق علمي.