هذا العمل العلمي نقدمه للقارئ العربي ليكسر الطوق على المعرفة الإسلامية الحديثة والمعاصرة، التي «زهدت» لأسباب سياسية واجتماعية قديمة في معرفة أديان العالم وعقائد الآخر، بعد أن كانت تلك المعرفة سبّاقةً إلى رصد الفرق والأهواء والملل والنحل، ثم إن هذا العمل دال من جهة أخرى...
هذا العمل العلمي نقدمه للقارئ العربي ليكسر الطوق على المعرفة الإسلامية الحديثة والمعاصرة، التي «زهدت» لأسباب سياسية واجتماعية قديمة في معرفة أديان العالم وعقائد الآخر، بعد أن كانت تلك المعرفة سبّاقةً إلى رصد الفرق والأهواء والملل والنحل، ثم إن هذا العمل دال من جهة أخرى على قدرة صاحبه على هضم علم مقارنة الأديان، وتتبع مسالكه داخل المجتمع الغربي، وانطلاقاً من مصادره الأولى وأدبياته الأصلية، ما مكنه من إعادة النظر إلى هذا العلم وتقييمه انطلاقاً من رؤية علمية استراتيجية قائمة على مفهومي التقنين والتقديس، اللذين يحيلان في واقع الأمر إلى مشكلة المتغير والثابت أو المعياري والمطلق، وهي مشكلة لا تخص النصوص الدينية في الغرب فقط، بل إنها تعم كل مجالات الفكر الغربي، حتى أصبحت اليوم مشكلة المشكلات في هذا الفكر هي إضفاء المعيارية المطلقة على كل القيم والمفاهيم، التي تصير حينئذ خاضعة لتقنينٍ وترسيمٍ متجددين، لن يلبثا أن يتغيرا بتقنين مخالف، فيصبح المقدس الماضي محدوداً في الحاضر، ليترك المجال لمقدس آخر يُفرض فرضاً، ويقنن له تقنيناً بشرياً محضاً!، ومما لا شك فيه أن هذه المواقف الريبية من معنى الحقيقة لم تكن إلا انعكاساً لواقع تاريخي خاص، خاضه الغرب سياسياً واجتماعياً وفلسفياً ودينياً، بل تكاد مواقف الفكر الغربي من مشكلة الحقيقة أن تكون ردود فعل على ما عانته الكتب الدينية «المقدسة» عند المسيحيين من مشكلات صارخة مع الحقيقة، وما أثارته من مشكلات معرفية، وما خلفته من مواقف نقدية، وضعت تلك الكتب «المقدسة» ومعها ممارسات الآباء والرهبان القائمين عليها وسلوكهم موضع المساءلة، وكل هذا ينبئ عن جدلية العلاقة بين مشكلة الكتاب المقدس والتطور الفكري والفلسفي في الغرب الحديث والمعاصر، ولعل مصطلحي التقديس والتقنين يختزلان تلك الإشكالية، ويشيران إلى تطورها إلى يومنا هذا، وأظن أن الدكتور يوسف الكلام قد وُفق جداً في استيعاب حركة نقد الكتاب المقدس في الغرب بعد أن ربطها بظرفيتها الفكرية والسياسية الداخلية، وشدّد على أسبابها الذاتية الكامنة في ذلك النص المقدس نفسه، وذكّر أيضاً ببعض أصول تلك الحركة ومنابعها داخل الفكر الإسلامي.