غاص المشحوف في غابة كثيفة من أشجار القصب التي انفرجت عن يمينه وشماله، وانسدلت وريقاتها الخضراء والصفراء والذهبية على أكتاف وهامات الرجال، محتضنة الضيوف بكل أمارات الحفاوة. كانت تلك الأشجار وادعة، مسالمة، سلسة الانقياد كأنها شعر حرير لفتاة بارعة الجمال يلهو المشط فيه...
غاص المشحوف في غابة كثيفة من أشجار القصب التي انفرجت عن يمينه وشماله، وانسدلت وريقاتها الخضراء والصفراء والذهبية على أكتاف وهامات الرجال، محتضنة الضيوف بكل أمارات الحفاوة. كانت تلك الأشجار وادعة، مسالمة، سلسة الانقياد كأنها شعر حرير لفتاة بارعة الجمال يلهو المشط فيه ويسرح معه في أي اتجاه يروم. اعترى هيثم إحساس جياش، شاعراً كأنه ’أليس في بلاد العجائب‘، عجائب من لون آخر يحار المرء في وصف تفاصيلها، فقد لاح المشحوف في سيره الوئيد لكأنه ينزلق بسلاسة تامة من تلقاء ذاته في ذلك المخدع الذي انغلقت أبوابه مثل باب مغارة كنز علي بابا التي استجابت من دون تردد لهذا الأمر بمجرد سماعها عبارة ’اغلق ياسمسم‘ كما تحدث الأسطورة. مخر القارب عالماً جديداً بالكامل، عالماً ساحراً مسبوكاً من ألوان وأشكال لا تحصى، ومولوداً من تزاوج فريد من الطبيعة الخلابة والحياة المتجددة والأسطورة النابضة.
تيقن هيثم إنه وجد ضالته المنشودة التي كان يبحث عنها طوال اليومين الماضيين بالشاهد ذاتها التي تجسدها في ذلك اليوم الماطر شديد البرودة في مكتبة عبد الحميد شومان عندما قرأ بألم شديد أنى عمد أعداء الإنسانية والتاريخ والحضارة إلى اغتيالها بدم بارد وتغييبها من ذاكرة تربو على سبعة آلاف سنة. بات صريع نجوى العشق الروحاني الذي خالج مرتادي تلك المسطحات في الزمن الغابر، الرحالة والمؤرخين وعلماء الجغرافيا والاجتماع والانثروبولوجيا، المسعودي وابن بطوطة والجاحظ والبلاذري والذهبي وولفريد ثيسجر، الرجالة البريطاني الذي عاش بين جنبات الأهوار والمضافات والقبائل سبعة أعوام وسرد حكايات الناس العائشة وسط القصب والبردي والمياه.