حتى وقت قريب، لم تكن تبدو دراسة شعوب وحضارات الشرق، من قبل الغربيين، وكأنها بحاجة لمن يدافع عنها أو يثني عليها، وذلك لأنها كانت تعدّ من أكثر فروع العلم مسالمة ووداعة. كان المستشرق يُعد باحثاً، اختار بمحض إرادته أن يركِّز همَّه العلمي على أحد قطاعات المعرفة الأبعد عنه من حيث...
حتى وقت قريب، لم تكن تبدو دراسة شعوب وحضارات الشرق، من قبل الغربيين، وكأنها بحاجة لمن يدافع عنها أو يثني عليها، وذلك لأنها كانت تعدّ من أكثر فروع العلم مسالمة ووداعة. كان المستشرق يُعد باحثاً، اختار بمحض إرادته أن يركِّز همَّه العلمي على أحد قطاعات المعرفة الأبعد عنه من حيث المكان والزمان. لقد اختار هذا القطاع المليء بالعراقيل والعقبات «اللغة الوعرة والكتابات المتعذرة على الفهم»، ثم الأديان والفلسفات والآداب الأكثر بعداً عن الخط الرئيس للتراث الكلاسيكي والغربي «الخط اليوناني والروماني». هذا هو مفهوم الاستشراق الذي ساد القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
لقد كان الاستشراق أولاً أحد الجوانب المتفرِّعة عن عصر التنوير والرومانطيقية، ثم عن الوضعية والمادية والتاريخية الأوروبية. وإذا ما أردنا أن نكتب تاريخه الكامل، فإن ذلك يتطلب منا أن نعيد كتابة كل تطور ثقافة الغرب، على تلك الأرضية التي زرعت فيها خارج نطاق الغرب وفيما وراء الغرب. وقد حمّل بذلك تلك الأرض الأجنبية رؤيته الخاصة للحضارة والتاريخ، للسياسة والدين، للمجتمع والشعر. وشهد الاستشراق، بالإضافة إلى هذا التطور الداخلي المرتبط بتطور الفكر التاريخي والفلسفي والديني للغرب، تطوراً خارجياً ناتجاً عن نموه الخاص بالذات، وقد عدّ في البداية علماً واحداً متكاملاً، ثم سرعان ما انقسم إلى فروع وتخصُّصات مستقلة بعضها عن بعض، ومتعلقة بمختلف الحضارات الخاصة بالشرق الأفريقي - الآسيوي.