إنَّ مجموعة الإشكاليَّات، التي تتعلَّق بحرّيَّة الإنسان، تشكِّل قمَّة أفكار دوستويفسكي الأنثروبولوجيَّة. وليست الحريَّة حقيقة محدودة عن الإنسان، بل إنَّ هذه الحقيقة مُعرَّفةٌ ومُحدَّدةٌ لدى الإنسان بمبادئَ أخلاقيَّة، لأنَّه، حقيقةً، وضمن حرّيَّته، يمكنه التحرُّك في...
إنَّ مجموعة الإشكاليَّات، التي تتعلَّق بحرّيَّة الإنسان، تشكِّل قمَّة أفكار دوستويفسكي الأنثروبولوجيَّة. وليست الحريَّة حقيقة محدودة عن الإنسان، بل إنَّ هذه الحقيقة مُعرَّفةٌ ومُحدَّدةٌ لدى الإنسان بمبادئَ أخلاقيَّة، لأنَّه، حقيقةً، وضمن حرّيَّته، يمكنه التحرُّك في اتّجاه الشرِّ كما في اتّجاه الخير والفضيلة، لذلك فإنَّ الحرّيَّة قد تجلب معها بذرة الموت، أو ما يمكن تسميته تدمير الذات، مع أنَّها قد ترفع الإنسان نحو التجلّي الأعظم. وكما أنَّ الحريَّة تعطي المجال الواسع لما هو شيطانيٌّ في الإنسان، فإنَّها أيضاً تُمَجِّدُ ما هو ملائكيّ، من مبادئَ وسماتٍ ضمنه أيضاً. وكما أنَّ دوافعها تضمُّ جدليَّةً تجاه الشرِّ، فإنَّها تمتلك جدليَّةَ الخير والفضيلةِ أيضاً. أوَليست هذه بالدلالة الكافية على الحاجة إلى المعاناة، التي طالما ما أحبَّ دوستويفسكي أن يؤكِّدها، حين قال إنَّ جدليَّة الخير تتحرَّك من خلال المعاناة، وغالباً من خلال الخطيئة أيضاً؟ كلُّ هذا صحيح، ويُمكن للمرء أنْ يضيف أكثر من ذلك بكثير، لكنَّ دوستويفسكي كان الأوَّل، ولا يزال لا نظير له في رسم التشوُّهات الذهنيَّة، التي تسبِّبها الحياة في المدينة الحديثة بحسبانها ضرورة اجتماعيَّة. كما تتجلَّى عبقريَّة دوستويفسكي، بالتحديد، في قدرته على تعرُّف القوى المحرّكة للتطوُّرات الاجتماعيَّة والأخلاقيَّة والنفسيَّة، المستقبليَّة، ووصفها من بداياتها الأولى،حتَّى قبل أنْ تتشكَّل.