يَحمِلُ هذا الكتاب، من دون شك، عنواناً إشكالياً، ما كان ليأتيه اللبس لولا الخلط الذي شاع بين الناس ما بين مفهومي الوجود والكينونة. ففي حين يُشيرُ المَفهومُ الأول لكلِّ ما يوجد وجوداً حقاً وعلى نحوٍ مُطلق، تُهيبُ بنا فكرة الكينونة لتحري طرائق وأسباب حصولٍ زمني للإيجاد...
يَحمِلُ هذا الكتاب، من دون شك، عنواناً إشكالياً، ما كان ليأتيه اللبس لولا الخلط الذي شاع بين الناس ما بين مفهومي الوجود والكينونة. ففي حين يُشيرُ المَفهومُ الأول لكلِّ ما يوجد وجوداً حقاً وعلى نحوٍ مُطلق، تُهيبُ بنا فكرة الكينونة لتحري طرائق وأسباب حصولٍ زمني للإيجاد ولابتداء النشأة. وإلى جوار ذلك، وعلى المستوى الدلالي، يُمكننا تلمس آثار بونٍ شاسعٍ يفرق ما بين المَوجود وجوداً مُطلقاً والكائن كينونة مُحددة: فالوجود موجودٌ، ولا بد أن يكون موجوداً، وليس هنالك من أثرٍ للعدم فيه البتة كما يقول ديكارت، ومثلما بيّنهُ قبله بارمنيدس في شذراته. وعليه فإن الوجود الخالص هو خاصية الموجود المُطلق الذي يَسبِقُ antérieur بالضرورة كل ما هو قيد الإنشاء والتواجد من أشكالٍ تتجاذبها ثنائية، طرفاها التكوين وما يحيطه من الـ ما- لم - يكُ - بَعدُ. من هنا، فإن البحث في وجود الله (المُطلق) من عدم وجوده، مُغالطة فجّة يَعافها التفقهُ المُتبَصرُ عند كل ذي عقلٍ حصيف، وعند كل من يتفكرُ في أعماق وجدانه ووفق إدراكٍ منطقيٍ لا يقبل الزيغ بثقل حضور الوجود. وسيتيقن من يتعمق في هذا الأمر، من أن تعالي الحق العظيم قائمٌ بِمَعزِلٍ عن أي مجهودٍ يبذلهُ الوعي للتقرب من ملكوته. وسَنجدُ في الحجة الأونطولوجية l'argument ontologique التي اجترحها بويس Boèce (القرن الثالث) وفصّل فيها أنسيلم دو كانتربيري (القرن الحادي عشر)، ثُم مع ديكارت ومع مُبرهنتي كورت غودل عن اللامكتمل الرياضي incomplétude ما يُقربنا من التفكر في هذا الأمر الجلل، والذي صار يُمثلُ ولا شك التحدي الأعظم للعقل الفلسفي. فوجود الله مُفارقٌ، ويتعالى على أي امتراء قد يراود البعض تجاهه، ويستعصي على المفاهيم وعلى صيغ الجدل والتفكير جميعاً، في حين لن يغيّر مضاء أساليب المعرفةِ أو حتى قصور نظرياتها شيئاً من واقعة وجود الله ومفارقته للوجود. وفي مقابلِ ذلك، يُمكن لحذق أساليب تلك المعرفة ومضاء نظرياتها، أن يدفعا بالوعي لانتهاج أو حتى لهجران سُبل اليقين.