ما كتبته هنا عن شارع الرشيد ليس رواية كما فعل زملاء لي، ففيه من سياق الرواية ما يوحي بأنه نص روائي يسرد وقائع حقيقية ومتخيلة، لكنه غير ذلك بالمرة، إنما هو نص حديث لا فواصل فيه بين الأنواع - وربما سيكون النقد الأدبي كذلك في المستقبل، فتكسر قوائمه المدرسية ومتاريسه النظرية- ...
ما كتبته هنا عن شارع الرشيد ليس رواية كما فعل زملاء لي، ففيه من سياق الرواية ما يوحي بأنه نص روائي يسرد وقائع حقيقية ومتخيلة، لكنه غير ذلك بالمرة، إنما هو نص حديث لا فواصل فيه بين الأنواع - وربما سيكون النقد الأدبي كذلك في المستقبل، فتكسر قوائمه المدرسية ومتاريسه النظرية- ففيه من أحلام يقظة الشعر، ما يدل على أنها أوراق ذاتية، كُتبت متقطعة عن شارع وحروب، وعن شارع ومدينة، وعن شارع وناس، عن حرب عشناها، أو عن حروب يجب أن لا تقع ولكنها وقعت، أو عن حوادث كانت أجنة في قلب البنية العسكرية فولدت وفي فمها النار. أو عن واقع يتشكل من جديد بطريقة اقتصادية وأيديولوجية مشوهة. أو عن أناس أعرفهم، كانوا يتجولون في الليل بعباءاتهم البيض، آتين إلينا من أعماق قبورهم وبيدهم حبال مشانقهم. أو عن أناس ولدوا بلا رؤوس، ولا أقدام، أصواتهم أنين، ولغتهم كتابة على جدران السجون والمنافي والمعتقلات. ولأنها كذلك فلم أكتب عن الحرب هنا إلا بما يفيد المقدمة في فصل الشبح، وفيه اختصار لكل ما وقع وما سيقع. وتركت الفصول الأخرى تكتب نفسها عن شارع الرشيد، وعن بغداد، وعما فعله الشارع في حياة مدينة مهمة. فقد أقمت نصاً تختلط فيه المرجعية بالمعلومة، والرؤية الذاتية بالتصور النقدي القائم على المكان، لفهم حركة الأشياء وفهم دورها في صياغة النص. نص هو من قبيل هيمنة مفردة المكان فيه: نص يؤرخ للمكان المدمر بفعل الحروب المعلنة، والحروب المستترة تلك التي شنها الأبناء ضد الآباء. أملاً في أن ينهض شارع جديد ومدينة جديدة ونص جديد، فنظم شارع الرشيد النص أولاً، تبعاً لمساره من باب المعظّم حتى الباب الشرقي، ليصبح عيناً لمدينة بغداد التي توشك أن تُمحى ثانياً.