إن ما ينقلنا من حالة نسيان الذات إلى حالة جعل هذه الذات قادرة على صياغة العالم اليوم هو الكشف عن سؤال هذه الذات، أي سؤال التنزيه الإلهي، وإختلاف الله وآخريته المطلقة وعلاقة هذه الآخرية بنا وبعالمنا، هذا السؤال أقلق المسلمين في الماضي وجعلهم ينشغلون بالإجابة عنه وتركوا لنا...
إن ما ينقلنا من حالة نسيان الذات إلى حالة جعل هذه الذات قادرة على صياغة العالم اليوم هو الكشف عن سؤال هذه الذات، أي سؤال التنزيه الإلهي، وإختلاف الله وآخريته المطلقة وعلاقة هذه الآخرية بنا وبعالمنا، هذا السؤال أقلق المسلمين في الماضي وجعلهم ينشغلون بالإجابة عنه وتركوا لنا نصوصهم شاهدة شاهدة على هذه الإنشغال، لكن هذه النصوص التي تقرأها لهم اليوم تخفي هذا السؤال ولا تكشف عنه إلا بصعوبة وعبر إستنطاق مرير. علاقتنا اليوم مع نصوص التراث هي علاقة مع السؤال الثاوي داخلها والذي تكشف عنه مواربة وتجيب عنه بشكل محدد، فالنص المفرد الذي يطمح للإجابة يطمح كذلك لأن يتحول إلى سلطة فريدة في التفسير، وهذا ما يجعل الإسهام الأهم للنص التراثي بالنسبة لنا اليوم هو في صلاحيته لأن يكون درساً يعلمنا فن الإجابة عن هذا السؤال الكبير. فهذا السؤال ليس من نوع الأسئلة المؤقت الذي يأتي مع التاريخ، ويذهب بذهاب شروطه الإقتصادية والسياسية والإجتماعية، إنه سؤال دائم، وسؤال يمكن صياغة الإجابة عنه بأشكال لا حصر لها، سؤال يدفعنا إلى إعادة بناء العالم مرات ومرات، ويدربنا كيف نكون نقديين في تقديم تأويلات مستمرة للأشياء، هذا السؤال المفتوح دائماً على أفق اللاتعين الإلهي، يقدم لنا التبرير اللازم لأن تكف عن التقليد، تقليد الماضي أو تقليد الغرب وبناء عالمنا وفق شروطه القائمة من جهة ووفق افق الحقيقة التي تبحث عنها وتلاحقها دوماً، من جهة ثانية. إن إنفتاح صياغتنا للعالم على أفق الله بوصفة آخرية مطلقة، يجعلنا أيضاً قادرين على قبول كل نصوص التراث دون إستبعاد أي منها، فهي كلها تقول شيئاً عن الله وتحاول معالجة هذا الجانب المنزه منه على طريقتها، في الوقت الذي ندرك أن أياً منها لم يعد صالحاً اليوم ليكون مرجعاً بمفرده لإستئناف التفكير ولا لإحيائه، تنزيه الله يمنع أي صياغة أن تكون مغلقة على نفسها ومحصنة ضد النقد. الدرس الذي يعلمنا إياه التراث هو ان كل صياغة نظرية للعالم هي فرضية تعتقد بإستحضار الله في شروط عالم محدد، في الوقت الذي ينكشف سريعاً عصيان آخرية الله على الإحتواء، وعلى الإستحضار التام. من هنا، نفهم لماذا حاولت بعض الصياغات في الماضي أن تمتع التفكير في ذات الله غلى درجة التحريم، لأن التفكير في الذات يفتح العالم والنصوص على أفق الإختلاف وبالتالي على بناء فرضيات أخرى عن العالم، الأمر الذي لا تقبل به سلطة التفسير الواحد. كل مفكر في الإسلام هو موضوع للنقد، وأهمية فكره تأتي من هنا بالتحديد، من قدرة نصه على إخبارنا كيف عالج آخرية الله وكيف نحكم وأخفق في ذلك ولم يستطع أن يطوع هذه الآخرية ويحتويها. النص التراثي يعلمنا فن إكتشاف الإختلاف داخله، ويمرن عقلنا على عدم التسليم بإجابته المقترحة عن السؤال، هذه الإجابة التي تبذل كل جهدها لإخضاع السؤال وطمس حقيقة تنزيه الله ورميها في النسيان.