لقد أصبح السؤال الديني الذي يشغلني بعد أن رجعت إلى مدينتي، هو كيف الوصول إلى مبتغى الإصلاح بعد أن ضاقت سبله في دائرة الأمة الواسعة، كما ضاقت في دائرة الوطن الأضيق التي هي هذه البلاد الصحراوية؟... فهل في البلدة الصغيرة ملاذاً وحلاً؟ أم أن الإصلاح في حقيقته... يكون في إصلاح...
لقد أصبح السؤال الديني الذي يشغلني بعد أن رجعت إلى مدينتي، هو كيف الوصول إلى مبتغى الإصلاح بعد أن ضاقت سبله في دائرة الأمة الواسعة، كما ضاقت في دائرة الوطن الأضيق التي هي هذه البلاد الصحراوية؟... فهل في البلدة الصغيرة ملاذاً وحلاً؟ أم أن الإصلاح في حقيقته... يكون في إصلاح إصلاح النفس والخروج من المدينة والإنعزال عن الخلق؟...
فأين المفرّ وقد أقفرت حواضر العلم والدعوة، وتحلّلت إمارات الحكم واشتد خطر الغزاة والبغاة؟...
لم يبق إلا الإحتماء بشنقيط، وهل فيها ملجأ وحماية، أم هي اليوم منفى المعتزل بعد أن قلّ السكان وتضاءلت التجارة وانقطعت السبل؟...
لقد خلصت بعد طول تدبّر وتفكير إلى أن أمر الدولة ليس ضمان العدل وإقامة الدين، وإنما الغرض الأوحد منها هو سدّ فراغات الملّة الصحيحة يميل البشر الطبيعي للظلم والفتنة... إلا أن صلاح الجماعة لا يكون إلا في العزلة والجمع القليل، فإن اتسع المقام وكثر العدد كان لا مناص من شر الدولة.
قد يبدو أن قوام أمر هذا الدين بإلتزام الجماعة والتمسّك بأحكام وآداب المخالطة، وهو أمر لا غبار عليه ولا مناص منه أن اجتمعت الشروط وحضرت الأسباب، ولا يكون ذلك إلا في مجتمع صلح أمره وقام على النهج السوي مسلكه، فتكون المخالطة تعاوناً على الخير والبرّ وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، أما إذا امتنعت طرق الخير، فالأحرى بالمرء إغلاق بابه والإنصراف لخاص شأنه...
لقد خبرتُ هذه المسالك كلها، واقتفيت كل تلك السبل، وهانذا اليوم أرجع لنفسي باحثاً في خفاياها وخباياها عن القوة التي تمنح السكينة والإطمئنان بعد أن عزّ المقصد في صحبة الناس ومخالطة أهل الشأن والمال والحكم.