"لم يبق من فاطمة سوى صورة كبيرة لها مرسومة بالزيت والألوان الفانية معلقة على جدار منسي في صالون قديم يسكنه الصمت والغبار. ومن لم يعرف فاطمة في زمنها البعيد قد يخيل غليه أنها مجرد صورة مرسومة باليد، لأناضولية حسناء تشي ملامحها بمزيج من كبرياء وسكينة، وبذلك الصمت الدهري...
"لم يبق من فاطمة سوى صورة كبيرة لها مرسومة بالزيت والألوان الفانية معلقة على جدار منسي في صالون قديم يسكنه الصمت والغبار. ومن لم يعرف فاطمة في زمنها البعيد قد يخيل غليه أنها مجرد صورة مرسومة باليد، لأناضولية حسناء تشي ملامحها بمزيج من كبرياء وسكينة، وبذلك الصمت الدهري الرابض في عينيها حاجباً كل الكلام الذي لم تقله، وكل الدمع الذي لم تذرفه لولا بوح قليل علق في ذاكرة ابنتها الصغرى فترويه بحب قلّ نظيره شريطاً بالأسود والأبيض يجمع الفراغات والأزمنة المتقطعة، ليحكي يوميات متشابهة لامرأة غادرت الأمكنة من غير أن تترك أثراً يقود إليها في متاهات الذاكرة... فاطمة بنت الحربين، عرفت أهوال الحرب الأولى في منزل أهلها في استانبول، ثم عاشت شتات الحرب الثانية في بيت زوجها في طرابلس. ولدت هناك، في بيت غارق في الضوء تنتصب فيه أعمدة رخامية تؤاخي السماء، وبين ممرات مائية تخترق حدائق خضراء لتتكسر على حواف صخور تنساب بعدها في مياه البوسفور، وكنساء الأناضول كانت فاطمة، أو فطمة خانم، أو فاطمة المغربية، كما سميت تحبباً لجمال مهيب فرض حضوره على حرملك الزمن البعيد، كانت ربيبة بيوت تعلم النساء الصبر والرضى والاحتشام، حيث يقاس جمال المرأة بالطاعة والخضوع، والانسحاب من دوائر الضوء، إذا كان ثمة دوائر ضوء، إلى ظل رضا أب، أو زوج، أو أولاد يكبرون ويعمّرون الحياة. توالت الأحزان والمسرات في حياة فاطمة بإيقاع متسارع، واختلطت في وجدانها توهجات الفرح العابرة بعتمة الفواجع الممتدة حتى آخر زوايا الروح، فاكتمل المشهد عندها مبكراً، ولربما فقدت مهاراتها في استقبال الدنيا بقليل من الدهشة والانتظار".
جميلة هي حكايا عابرات حنان خير بك خدام، وفاطمة تلك أولى عابراتها لتأتي أميرة وأرزة ونجمة وآمنة وصابرة ومدام X وسلمى ورابحة وعائشة ونورا وفداء ومديحة يسري وأم عمار وأم يزن وريما وجيدا وماسة، ولمياء وسوسن وهانية وسمر. تسرد الكاتبة قصص هؤلاء العابرت كما روينها لها، مع تعديلات بسيطة في الأسماء والوقائع، وهذا يزيد من الإحساس بأن الكاتبة وكأنها تحكي عنهن وعن نفسها وعن أخريات لا تعرفهن فكلهن في النهاية نساء من هذا الشرق واجهن هموماً وأوجاعاً لا تعرفها ربما المرأة في أي مكان آخر.