ي الموضوع:
ما يزال فكر "الخصوصية" يتردّد في الأوساط الثقافية والعلمية والسياسية عندنا وعند غيرنا، ويجد من يعتصم به ويعمل بمقتضاه دون مساءلة ليقينياته المتراصّة وجوانبه التخييلية، ودون فحص لتركيب عناصره وجهازه المفهومي. ولقد يجري ذلك في نوع من الاستسهال يحرّكه إرضاء الذات وتعويضها في زعم الذود عمّا يميزها ويصون وحدتها الجوهرية في مواجهة آخرها الذي يشكّل، من هذا المنظور، تهديداً لها وعدواناً عليها. وهو ما يدفع أصحابه إلى تلخيص ذلك الآخر ــ مهما كانت درجة آخريته أو نوعها ــ في خصوصية مقابلة تواجه سابقتها، وتقترن بها إحالياً في علاقة التضادّ التي تجعلها تدور بخلافها دوراناً تنتفي معه عمومية القانون النظري، على النحو المفضي إلى إنتاج القطيعة، وحذف مشتركات التفاعل، ورفع جسور التواصل، وإغلاق الهويات بقطع بعضها عن بعض، ومواجهة بعضها ببعض، وتعريف كلٍّ منها بذاته تعريفاً نهائياً لا مكان فيه إلاّ للنبذ والإقصاء.

ليس هذا الموضوع جديداً؛ فقد بذلت فيه جهود واسعة لمفكرين من أجيال متعاقبة، وكانت حدود القول فيه تضيق وتتسع، وفق ما تقتضيه العلاقة بين جانبيه، على خلفية المدّ أو الانحسار الحضاري في أزمنة مختلفة. ومع ذلك يبقى إمكان تأملّه وتجديد النظر فيه ضرورة لا غنى عنها، ولا سيما في ضوء ما نشهده اليوم من دعوات وممارسات يقوم كلٌّ منها على إغلاق محلّه الخصوصي على نفسه، تجاوباً مع تجدّد صور التأزم المحلي والعالمي، وتعبيراً عنها بما يوافقها ويؤسس لها تأسيساً فكرياً يجب العمل على مراجعته وتقويمه ونقض دعائمه الثابتة.

من هنا كانت مقالات هذا الكتاب معنية بتسليط الضوء النقدي على جوانب محددة من فكر الخصوصية، من خلال تناول بعض الجهود المبذولة فيه بالنقد الرامي إلى الكشف عن الطبيعة المأزومة لهذا الفكر، كما تتبدّى في طريقة استجابته للعلّة التي تتقدّمه في الواقع، والتي يواكبها هو، في تأسّسه عليها، بما من شأنه أن ينتهي إلى تدعيم أصولها، وإرساخ ثوابتها، وتمكين وجودها. وليس ذلك، أولاً وأخيراً، سوى محاولة هادفة إلى تغليب النظر العلمي على البعد الإيديولوجي والأثر التخييلي، وليس سوى دعوة لتوسيع أفق المشاركة في تدبّر هذا الموضوع ومطاولة جوانبه الأخرى التي قصّرت عنها هذه المعالجة.