قليلة، بل جد قليلة، هي الدراسات التي خصصها العالم العربي الحديث للتراث الفذّ الذي تركه محمد بن عبد الجبار النفري، المتوفي عام 354 هـ / 965 م، والذي لا نعرف عن مسيرة حياته سوى النزر اليسير. وبالتأكيد، لم يكن هذا الشيخ من قبيل الصدفة، ففي الحق أن النصوص الغزية قد أوغلت في التجريد...
قليلة، بل جد قليلة، هي الدراسات التي خصصها العالم العربي الحديث للتراث الفذّ الذي تركه محمد بن عبد الجبار النفري، المتوفي عام 354 هـ / 965 م، والذي لا نعرف عن مسيرة حياته سوى النزر اليسير. وبالتأكيد، لم يكن هذا الشيخ من قبيل الصدفة، ففي الحق أن النصوص الغزية قد أوغلت في التجريد والعلوّ إلى حد جعلها غريبة عن الذهن الحديث الجانح إلى العزوف عن المتعاليات، أو إلى قلة الاهتمام بكل ما يخرج عن التجربة الواقعية. بيد أن هذا العلوّ، الذي كان من شأنه أن جعل الأسلوب ساحقاً باذخاً على نحو متميز، ينمّ عن رغبة نصف مكتومة مؤداها أن الرجل يرمي إلى ابتكار كتاب مقدس يخصصه لنقاوة الخاصة من البشر، أو قل إنه يحاول أن يبتكر كتابه المقدس الذي يخصه وحده من سائر الناس. وأياً ما كان الشأن، فإن أول ما يلفت انتباه القارئ للخطاب النفري هو أنه يختلف كثيراً عن الموروث الصوفي العام، من حيث أن هذا الخطاب هو صدور مباشر عن المصدر التي تصدر منه الأشياء برقتها، أو قل بوصفه حواراً بين طرفين؛ أو لهما مطلق وثانيها محدود. فبينما يكتفي أبو نصر السراج الطوسي، صاحب "اللمع" ومعاصر النفري، بشرح ماهية الصوفية والتعريف بأفكارها ومصطلحاتها؛ فإن صاحب "المواقف" و"الخاطبات"؛ أي النفري، لا يلتفت إلى هذا الموضوع قط؛ بل يصبّ جمله جهده على إنشاء نص يحاول، على نحو واضح، أن يكون نصاً لا يشرح شيئاً سوى العلاقة الراسخة التي من شأنها أن تحذف كل فصال وهجرات. فقاعدة النفري تتلخص في أن الإنسان، أو العالي أو الكامل من البشر، موصول ومحاط بالرعاية دوماً. واستناداً إلى هذه الحقيقة، فإن في ميسورك النظر إليه بوصفه بطلاً يردد واقعاً سماوياً لاحياة للروح إلا فيه، أو بواسطته وحده. فهو يكتب ما يشبه أن يكون ملحمة، أو مسرحية تجري في داخل الوجدان حصراً؛ إذ لاريب في أن الرجل يأنف من العالم الخارجي؛ بل هو يمقت كل ما ينزع إلى التجسد. وبفضل هذه المهمة الجليلة، مهمة ارتياد العلو، جاء الاسلوب مهيباً وقوراً يأهله روح نبيل رفيع. ولعل أهم ما يميز أسلوب النفري أنه ينبثق من طاقة حدسية لا مصدر لها سوى الراقة السرية الراخمة في أعمق أعماق النفس البشرية. وللحق إن كل ما هو أصلي إنما ينبثق من جذر حدسي يتعذر إدراكه بواسطة المفاهيم والتصورات الذهنية. وبفضل هذا الزحم الاستبصاري استطاع النفري أن يحيل اللغة المنثورة إلى شعر، أو إلى برهة تتوسط بين الشعر والنثر، بل توقف بينهما على نحوٍ مدهشن. وبالعودة إلى ما تضمنه هذا الكتاب، فإن مما هو واضح، لدى قراءة النصوص النفرية، في كتابيه (المواقف، والمخاطبات)، أن الكاتب إنما يكافح من أجل إحراز الرؤيا التي هي غاية من غايات الروح، والتي لا خروج للإنسان من شقائه إلا بها وحدها دون أي شيء آخر. ففي أعماق هذه النصوص ثمة شعور مفاده أن الصراع أو التضاد، هو العبودية بأم عينها، وأن الحرية ليست شيئاً آخر سوى الخروج من التضاد إلى الفسحة النقية والمتجانسة على نحو كامل. فالنفري شخصية سلمية في الجوهر والصميم؛ وإن هو قد أكثر من الحديث عن المتضادات والمتنافيات. وهذا يعني أن صورة النرفانا، أو صورة انعدام كل صراع وكل نفي، هي جذر من جذور وعي الكاتب، دون أدنى لبس. zo2I5nl88Wأية حال، فإن هذا المنزع، منزع التجاوز غلى ما وراء الأضداد هو الصوفية في أنقى أحوالها. فالصوفية الخالصة، أو تلك التي تؤمن بأن مملكتها ليست من هذا العالم، إنما تجاهد كي يبلغ الروح البشري الى الفسحة التي لا تحدها حدود ولا تقيدها قيود. وبذلك تغدو الصوفية مطلباً نبيلاً يتجاوب مع حاجات النفس الداخلية بالدرجة الأولى. ولقد حدد الكاتب هذا المنزع تحديداً شديد الوضوح وذلك حين قال في الموقف الثاني عشر: "وقال لي: أتدري أين محجة الصادقين؟ هي من وراء الدنيا، ومن وراء مافي الدنيا، ومن ورائها في الآخرة" [...]. هكذا يمضي الباحث في استشفاف المعاني النفرية التي غاب صاحبها عن أناه بحثاً عنها.. سكن الصوفية... أو سكنته... فسكنت نفسه إليها... وحلقا معاً في عوالم المعنى واللغة وليبرهن النفري ومن خلال نصوصه "المواقف" و "المخاطبات" كاتب أدبي حقاً، أو قل إنه أفضل محاولة بذلتها العربية كي تجعل النص الصوفي النثري نصاً أدبياً يصلح أن يرسم الذائقة والمتعة الفنية، وذلك بفضل ما زوده به النفري... الكاتب من بصائر وأخيلة افتراقية شديدة القدرة على البلوغ إلى النائيات... وهكذا ستكون رحلتك كقارئ مع الباحث في استكشافاته هذه، ودراساته الممتعة حول النفري ونصوصه واختراقاته... رحلة فيها من المتعة الروحية ما يجعلك تتماهى معه في هذه النصوص.