في حوالي العام 63/ 64 ق.م. ولد الجغرافي الإغريقيّ العظيم سترابون، وفي حوالي العام 24/ 23م توفي، أي أنه كان معاصراً لواحد من أهمّ المتعطفات التي عرفها التاريخ القديم: صعود الإمبراطورية الرومانية إلى مسرح التاريخ ومغادرة الهلنستيّة للمسرح نفسه.ينتمي سترابون إلى مدينة أماسيا...
في حوالي العام 63/ 64 ق.م. ولد الجغرافي الإغريقيّ العظيم سترابون، وفي حوالي العام 24/ 23م توفي، أي أنه كان معاصراً لواحد من أهمّ المتعطفات التي عرفها التاريخ القديم: صعود الإمبراطورية الرومانية إلى مسرح التاريخ ومغادرة الهلنستيّة للمسرح نفسه. ينتمي سترابون إلى مدينة أماسيا البونتية، وهي واحدة من المراكز الهلنستية الكبرى التي كان يعيش فيها عدد كبير من الإغريق، وكان أفراد أسرته يشغلون مناصب مرموقة لدى ملوك البونتس، فوالد جدّه كان قائداً عسكرياً لدى ميتريدات إيفباتور، وشغل أحد أقاربه الآخرين منصب كبير الكهنة في كومّا جينا، أي أنه كان الشخصية الثانية بعد الملك مباشرة. وعلى وجه العموم، كانت عائلة سترابون ذات توجهات رومانية الأمر الذي أتاح لها إمكانية الإقامة في روما بإطمئنان، ولذلك تمكن سترابون من تحصيل قدرواف من الثقافة الفلسفية بمعايير تلك الأزمنة، بل كرّس نفسه للرحلات والتحصيل العلمي مقتفياً في هذا أثر بوسيدونيوس، وبوليبيوس، لكنه عاش طويلاً في روما يجول في دوائر مجتمعها العليا، بيد أنه من غير المعروف على وجه اليقين أين قضى سترابون آخر سنّي حياته: في روما أم في الشرق. أما أول مؤلفات سترابون: "مدوّنات تاريخية" فلم يبق ليصل إلينا، وكان مؤلفه يريده تتمّة "لتاريخ" بوليبيوس: ففيه تناول سترابون الأحداث التاريخية من لحظة تدمير قرطاجا وكورينثوس حتى معركة أكسيوم في العام 31 ق. م. ثم جاء كتاب "الجغرافيا" أو "المدوّنات الجغرافية" ليواصل ما بدأته "المدوّنات التاريخية"، وكان سترابون قد انتهى من كتابة هذا المصدر التاريخي الجغرافي العظيم في حوالي العام 7 ق.م. وينتمي "الجغرافيا" إلى جنس المدوّنات الخالدة. إنه كتاب علميّ صرف، فهناك حيث يعرض المؤلف وجهة نظره تسود لغة نثرية علمية جافة تذكّر بلغة ديودوروس الصقلي أو ديونيسيوس الغاليكارناسي. إنّ القيمة التاريخية الخالدة لهذا الجغرافي العظيم لا تقتصر على ما نقله إلينا عن منظومات إراتوسفين، وهيبارخ، وبوسيدونيوس، بل تمتد لتشمل عالماً كاملاً كشف لنا عنه، وكان يمكن أن يبقى بالنسبة إلينا عالماً غامضاً ومبهماً.