-
/ عربي / USD
كانت طفلة في الرابعة من عمرها. صفحة بيضاء يمكن أن يرتسم فوقها كل/وأي شيء سلبي أو إيجابي. أهلها كانوا معطائين ومُحبين، لكنهم افتقدوا إلى الثقافة وأصول التربية العلمية ومعاييرها، فلم يوفّروا لطفلتهم مقومات الحياة المتوازنة والأمان السايكولوجي. العكس كان صحيحاً، حيث انطبعت على هذه الصفحة البيضاء مشاعر الألم والخوف والقلق التي سببّتها نزاعات الأهل وصراعاتهم المتواصلة وإهمالهم أو عدم وعيهم لواجبات وقواعد التربية السليمة. وهكذا تحولّت هذه الصفحة البيضاء إلى صفحة داكنة بقيت تنخر في أعماق الطفلة طيلة حياتها، حتى وهي في سن السبعين.
هذه الطفلة هي أنا!
بيد أن هذه الطفلة المعذبة لم تستسلم لهذا الإرث الثقيل، وقررت أن تحوّل ماضيها المعذب إلى حاضر ومستقبل يكون نقيض كل ما عانته هي في طفولتها. البداية الأولى لتطبيق هذا التوجّه كانت كأم مع بناتها الثلاث، ثم سنحت الأقدار لها أن تمارس هذا الدور كمربّية لحقبة دامت نيفاً وعشرين عاماً، عاشت خلالها مع أجيال وأجيال من الصغار، وموجات إثر موجات من المدارس والاجتهادات العلمية التربوية من كل أنحاء العالمية، ثم سجّلت محصلات كل ذلك في هذا الكتاب القَصَصي الواقعي. كلنا يعلم، ويكرر دوماً ، أن الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق. وكلنا يعلم، ويكرر دوماً أيضا، أن الأم التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسارها. فإنجاب طفل يعني تشييد صرح إنسان، وهو مشروع ضخم يتطلب عناية مديدة ليس من حيث الغذاء والمأوى واللباس وحسب بل أولاً وأساساً من حيث الاهتمام الكلي بالجوانب السايكولوجية، والإدراك التام بأن لكل طفل خصائصه وسماته ومهاراته الخاصة، لا بل كل طفل في الواقع هو حالة خاصة. وبالتالي، ليس هناك قاعدة تربوية جامدة لكل الأطفال بلا استثناء. فالطفل إنسان، وهو ينطوي على كل ما في الإنسان من أغوار قد يصعب حتى على أعتى علماء النفس سبر كل حيثياتها وتفاصيلها وتعقيداتها.
مع ذلك، ثمة مسلمات لابد من تطبيقها تربوياً هي:
- حين يعيش الطفل الأمان، يتعلّم الثقة بنفسه وبمن حوله.
- حين يعيش القبول، يتعلّم الرضى.
- حين يعيش العاطفة، يتعلّم الحب.
- حين يعيش الأمانة، يتعلّم احترام الحقيقة.
- حين يعيش الصبر، يتعلّم طول الأناء.
- وحين يعيش الصداقة، يتعلّم عملية التواصل الاجتماعي.
تلك هي بعض الخطوط العريضة للتربية التي تساعد إلى حد كبير على بلورة مفهوم الضمير عند الطفل بالتدريج.
هذا على صعيد الأم. أما في مجال المربّية فهي تشارك في تطوير وتربية الطفل مشاركة فعلية. كم من المشاكل التربوية التي يتسبّب بها الأهل بفعل سوء تعاملهم مع الطفل تُحل عن طريق المربية. ومن خلال تجربتي المتواضعة طيلة 20 سنة في حقل التعليم كمسؤولة قسم الأطفال، تأكد لي بأن المربية هي بمثابة الأم الثانية للطفل، الأمر الذي يوجب أن تكون على مستوى عالٍ من الوعي والثقافة التربوية لتتمكّن من القيام بواجباتها ودورها على أكمل وجه ممكن.
إن السنوات الخمس الأولى من عمر الطفل، كما يقول علماء النفس، هي الدعامة الكبرى في بناء شخصيته . وهذا الكتاب الذي بين أيديكم ينطوي على تجارب تربوية عدة تساعد الأم والمربية على دراسة بعض الحالات التي عشتها مع أطفالي الأحباء، الذين بقدر ما علّمتهم تعلّمت منهم، وبقدر ما اسبغت عليهم العاطفة الصادقة أغرقوني بحبّهم الأصدق والأكثر براءة.
لقد قال أحد الفلاسفة أن التربية هي الأداة التي تجعل من الفرد مخلوقاً سعيدا. هذا صحيح. لكن الصحيح أيضاً أن العامل الأول في نجاح هذه الأداة هي العامل الإنساني، كما الأمر في الواقع مع كل أحداث التاريخ البشري. وهذا العامل هو أنتِ أيتها الأم. هي أنتِ أيتها المربية. فأنتما معاً تحوزان القدرة على منع تكرار الآلآم والمعاناة المديدة التي تعرّضت إليها طفلة السنوات الأربع التي حدثتكم عنها، وأي طفل وطفلة في مجتمعنا.
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد