-
/ عربي / USD
كما أن الأفكار تدرس من مصادرها الأصلية فكذلك بالإمكان دراستها من مصادرها الثانوية. وصحيح أن الوعي الذي نحصل عليه من قراءة الفكرة من مصدرها الأصلي ليس مثل الوعي الذي يحصل لنا من قراءة الفكرة من مصدرها الثانوي، وصحيح أيضًا أنه لا يصح منهجيًا الاعتماد على المصادر الثانوية في دراسة أي فكرة في ظل كون مصدرها الأصلي ماثلًا بين أيدينا، إلا أنه في حال فقدان المصادر الأصلية، وهذا واقع عدد من الشخصيات التاريخية والطوائف المنقرضة؛ فإن الباحث يجد نفسه مضطرًا إلى دراسة تلك الفكرة وإعادة بناء ذلك المذهب من المصادر الثانوية.
وهذه الدراسة التي بين أيدينا مثال جيد على هذه المنهجية في البحث. أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي (تـ: 319هـ/931م) مؤسس اتجاه البغداديين من المعتزلة الذي سيظل موجودًا في خراسان إلى منتصف القرن: (5هـ/11م) -بحسب ما لدينا من وثائق- قبل أن يسبق اتجاهات المعتزلة الأخرى إلى الانقراض والتلاشي من التاريخ. وتعد هذه الشخصية من رواد علم الكلام، فهو ليس مجرد متكلم عادي، وإنما مؤسس اتجاه، مثله مثل أبي هاشم الجبائي وأبي الحسين البصري في المعتزلة، وفخر الدين الرازي في الأشعرية، ونصير الدين الطوسي في الإمامية. وأبو القاسم الكعبي وإن كان من خراسان؛ إلا أن تتلمذه على متكلمي المعتزلة في بغداد أسهم في أن يبقى لقب «البغداديين» حاضرًا في المدونات الكلامية التالية له؛ حتى بعد انقراض أتباعه في خراسان. وقد وصل إلينا من تراث هذه الشخصية المركزية في تاريخ علم الكلام كتابان؛ أحدهما يختص اختصاصًا مباشرًا بنطاق هذه الدراسة؛ لكن لم يتسن للمؤلفة الوقوف على كامل مخطوطته. وقد حاول القائمون على هذه الترجمة استكمال هذا النقص. إن فائدة تعريب هذا النوع من الدراسات في حقل الإسلاميات تتمثل في عدة زوايا؛
الأولى: متابعة آخر التطورات في دراسات الظواهر التاريخية الإسلامية في الأكاديميا الغربية، ومحاولة ربط الشرق بالغرب، البلخي ودفع الباحثين العرب -لا سيما الذين لا يحسنون اللغات الأخرى مثل كاتب هذه الأسطر- إلى التفاعل الإيجابي مع هذه الدراسات، والتفاعل الإيجابي يكون بالنقد العلمي أو ببناء الأطروحات استنادًا على الرؤى التي تقدمها هذه الدراسات.
والثانية: إيقاف الباحث العربي المتخصص على آلية دراسة هذه الأفكار لدى باحثي الأكاديميا الغربية؛ فكتب مناهج البحث العلمي لا تفيد كما تفيد ملاحظة آلية تطبيق هذه المناهج عمليًا؛ فاستفادة الباحث من هذا النوع من الدراسات -بحسب تقديري- أكثر من استفادته من الكتب التي تقعد لمناهج البحث؛ لأنه يرصد بنفسه طريقة دراسة الفكرة ومنهجية تحليلها.
والثالثة، وهي تختص بحال هذه الدراسة التي بين أيدينا على وجه التحديد: وهي بما أن المؤلفة درست آراء أبي القاسم الكعبي من المصادر الثانوية، التي لا تخلو من اضطراب وتناقض فيما بينها في حكاية آراء الآخرين؛ فستكون دراستها أنموذجًا يمكن محاكاته في دراسات أخرى تُجرى على شخصيات وطوائف لم يصل إلينا شيء من تراثها الكلامي؛ كالجهم بن صفوان، والكرامية؛ ما يفيد الباحث في كيفية التعامل مع هذا النوع من الظواهر التاريخية الإسلامية، التي حفلت المصادر الثانوية -بمختلف انتماءات أصحابها- بحكاية آرائهم؛ لكن شاءت الأقدار أن تُغيّب عوادي الدهر أصواتها عن تمثيل ذاتها في عصر البحث العلمي.
عبد الله الـغِـزِّي
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد