الحروب، والدمار الذي تتسبّب به، هي مواجهةٌ مع الثقب الأسود لمَا هو غير قابلٍ للتمثيل. إنّها تزعزعُ الجسد الاجتماعيّ وتدمّر أعمال الثقافة، مزلزلةً المعتقداتِ والمعارفَ التّي تخصّ الإنسانَ والمجتمع. الحرب تهدّد البشر في كلّ مكان، تنتزعهم من تاريخهم. تتحقّق الذاتيّة حينما تجد الأجساد التي كانت مسكونةً بلغةٍ وقصّةٍ نفسها جامدةً وصامتة، ومتحوّلةً إلى حالة الرفات التي تُرفَع عقب المعركة. إنّ أجيال الحرب التي مرّت بهذه المِحَن تجد نفسها في مواجهة الموت الذي يقوّضها، ولم تعد تؤمن بالتاريخ، فيما تاريخهم هو الذي يتأثّر. نتحدّث بعد ذلك عن الصدمة، التي هي موجةٌ من الرهبة في قلب الواقع، وتخلقُ فجوةً في تجربة الذات وتكسر الطابع الزمني لحكايتها الشخصيّة. يتوافق مصطلح الصدمة مع مصطلحٍ آخر، جديد نسبيًّا، ولكنّه اكتسب أهميّة متزايدة في العقود الأخيرة، ألا وهو المقاومة. يشير مفهوم المرونة إلى قدرة الفرد على الخروج سالمًا إلى حدٍّ ما من المواقف المؤلمة، في هذه الحالة، للحرب. على الجانب الآخر من مصطلح المرونة يوجد شقيقه: الهشاشة. يقول المثل اللبناني: يا جبل ما تهزّك ريح، إنّه استعارةٌ مليئةٌ بغريزة الحياة، مهمّةٌ جدًّا، وتصرّ على التلامسِ بين الريح والجبل وظاهرة التعرية التي لا يمكن أن تزعج الذات بسهولة، أو تضعفها. لقد عشتُ الحرب في وقتٍ مبكرٍ جدًّا من حياتي، واندلعت حتّى قبل أن أحبوَ خطواتي الأولى... لكنّني اختبرت المقاومة أيضًا: استمدَدْتُها من مثابرة والدتي التي لا تتزعزع، ومن الترابط الأخوي مع شقيقاتي الأكبر سنًّا. الحقيقة أنّ والدتي، التي كانت يتيمة الأب (توفّي والدها ولم يكن عمرها قد تجاوز الستّة أشهر)، تعلّمت وبمساعدة العديد من عوامل المقاومة في حياتها أن تمهّد الطريق دائمًا لقيادة الحياة، والبقاء منتصبةً بغض النظر عن أيّ شيء، وهذه هي الحالة التي نقلتها لي منذ صغري. حتى إن والدتي كان لها تأثير على اختياري التخصّص، حيث إن رغبتي في أن أكون معالجةً نفسيّة، ثم محلّلة نفسيّة... بدأت برغبة من والدتي، التي قررت أن أملكها لاحقًا، من خلال العمل على نفسي. باختصار، ساعدني هذا المحيط الحاضن في أن أمتلك القوّة للبقاء على قيد الحياة خلال الحياة اليومية الصاخبة لبلدٍ ينغمس باستمرار في انعدام الأمن، والليالي المعذبة لمدينةٍ تنام على إيقاع الانفجارات التي تولّد مخاوفَ لا يمكن تحديدها.