تظهر إرادةُ الحقيقة لا كقناعٍ لإرادة القوة، إنما كخلعٍ عنيفٍ للأقنعة، وككشفٍ سافر، وفعلٍ جريء لإسقاط الشرعية عن جوهر النفاق – ألم يكن ذلك درةَ التّاج في مشروع نيتشه الفذ والمتفرد؟ أليست إرادة الحقيقة عنده )لا إرادة القوة) هي التي وقفت وراء فعل تعريته الكبير لفصولٍ طويلة من...
تظهر إرادةُ الحقيقة لا كقناعٍ لإرادة القوة، إنما كخلعٍ عنيفٍ للأقنعة، وككشفٍ سافر، وفعلٍ جريء لإسقاط الشرعية عن جوهر النفاق – ألم يكن ذلك درةَ التّاج في مشروع نيتشه الفذ والمتفرد؟ أليست إرادة الحقيقة عنده )لا إرادة القوة) هي التي وقفت وراء فعل تعريته الكبير لفصولٍ طويلة من ظاهرةٍ متجذرةٍ في الفعل الإنساني، هي إرادة القوة؟ – لقد هزّ نيتشه صرحَ النّفاق من سقراط إلى كانط. مع ذلك، وضع أسساً خطيرة تشرعن قوةً هوجاء، منفلتةً من كلّ رادعٍ، إلا من تجميل نفسها بقناع الحقيقةِ الذي دأب نيتشه نفسُه أن يمزّقه إربًا إربًا. وطالما إرادةُ القوةِ بمنظوره هي الجوهر الأساسي للوجود، فلماذا يدأبُ صاحبُها )أصحابُها( على مرّ العصور في تغطيتها بقناعٍ نقيض؟ أليس هذا الأمر دليلًا قاطعًا على أن الإنسان المنجرف بأمواج إرادة القوة يعي أن إرادةَ الحقيقة هي بوصلةُ الغريق والخائف من الغرق على السواء؟ … يشكل هذا الكتاب وجهًا آخر لعملة النقد الثقافي التي طرحها أحد أبرز ممارسيها في الوطن العربي، هو عبدالله الغذامي. إن النقد الثقافي لا يمكن له أن ينحصر فقط في خانة الكشف عن أنساق قديمة مضمرة، إنما عليه البحث عن أنساقٍ جديدة تناهض المألوف القديم أو المقبول. فقد يؤدي الخطابُ الثقافيّ الإبداعيّ وظيفةً في غاية الأهمية كنسق يتناقض بحدّة مع الخطاب السياسي أو الاجتماعي السائد. ولا يخفى على أحد فعل الفنون في تحطيم مفاهيمَ وأشكالٍ وقوالبَ ومسلماتٍ قديمة. فالشعر والنثر والدراما التلفزيونية والكاريكاتير والمسرح والسينما، كلها بمثابة فضاءات إبداعية، تُسائل وتعيد تشكيل الهويات الفردية والجماعية من جديد. ولقد ارتأيت أن أجسد هذه الحقيقة في هذا الكتاب عبر تحليل أعمالٍ لمبدعين عرب من بلاد الشام (سوريا، لبنان، فلسطين) لكونها وحدة ثقافية ذات ملامح عامة متشابهة، وإن نجح تقسيمها القديم والجديد سياسيًا بإبعاد فكرة هذه الوحدة الثقافية عن الأذهان. إن نماذج الأجناس الفنية المختلفة المطروحة هنا تشكل حوارات إبداعية تقوم على تحدي الخطابات الأيديولوجية والسياسية والتاريخية والأدبية المتداولة، من خلال إعادة بناء التفكير في الأنا والآخر والعالم. … ومع كلِّ برعمٍ يتفتح، تظل فُرصة الوردة المسحوقة مشرعةً على الانبعاث والتجدد: أن تُفرزَ رحيقًا يسمو أريجُهُ فوق قَدَمِ البطش. هذا الأريج يختبئ وراء صيغ وحجب الكلام والادعاءات. أحيانًا تُلحّ علينا لهفةُ طموحٍ مشبوب أن نُقدّمَهُ إلى الواجهة وأن نعرض عبقَهُ على الملأ. وكعادته، يغور هو مجددًا وراء تلك الصيغ. هذا الكتاب هو تجربةٌ ذهنيةٌ فحسب، حاولت من خلاله أن أُعبر عما أظنه شيئًا من معاني هذا الشذا، تارةً بما بدا كبديعِ التلميح، وتارةً بما ظهر كالبيان الفصيح.