يقول محمد غازي الأخرس إنه يكاد يشم رائحة البارود تندلع من السطور، وهو يصف مناخ كتابة المخطوطة وقتها، حين تتراكض العبارات والسطور على وقع خطى القتلة ولعلعة الرصاص وصراخ قتلى مجهولين، وأنا أعرف هذا المناخ الدموي، وكيف يتسلل نزيف الضحية الى الورق الأبيض، الذي يحمرّ خجلا من...
يقول محمد غازي الأخرس إنه يكاد يشم رائحة البارود تندلع من السطور، وهو يصف مناخ كتابة المخطوطة وقتها، حين تتراكض العبارات والسطور على وقع خطى القتلة ولعلعة الرصاص وصراخ قتلى مجهولين، وأنا أعرف هذا المناخ الدموي، وكيف يتسلل نزيف الضحية الى الورق الأبيض، الذي يحمرّ خجلا من صمت وسكوت معظم المثقفين عن فضح القتلة وكشف دموية العقائد الملثمة. هل نترك الكتابة لوجود مناخ كهذا عندنا، ونحن قد تعلمنا كيفية التحايل على ظلام انقطاع الكهرباء، وعلى ظلمة وجوه المتطرفين باستخدام الفانوس و«اللاله» واستخدام تقنية الوجود الافتراضي في مراوغة رصاص القتلة، حيث يتجمع ويتكوم على وجه الكاتب كل ما في العراق من حشرات؛ الزاحفة والطائرة والمتطفلة؛ من بعوض وبرغش وحرمس والبقية لا أعرف أسماءها، إذ تمتص هذه الحشرات من دم الكاتب ما يعادل حبر المخطوطة التي يدونها. كما يسمع الكاتب العراقي في كل ليلة صوت رصاصتين أو ثلاث، قريبة جدا فيعرف، من فوره: أنهم قتلوا ضحية جديدة سوف يراها صباحًا مرمية وسط بركة دم خلف المدرسة أو في ساحة كرة القدم، يرى ثقوب الرصاص في الرأس والصدر فيركض راجعًا إلى البيت لإكمال مخطوطته قبل أن يحين دوره برصاصتين أو أكثر. يدرك المثقف هنا أنه شاهدٌ على عصر دموي؛ فإمّا أن يكون شاهد زور، أو يسكت على الجريمة أو يحمل دمه على كفه ويزيح اللثام عن وجه القتل.
هذا ما خلصت إليه بعد إكمال القراءة حين أدركت أن مؤلف هذا الكتاب لا يخاف من الكتابة المغامرة تحت سقف التهديد والوعيد ولا يخشى نفثات الكراهية السامة التي تنطلق من الأفواه ذات اللسان المشطور. هذا الكتاب سوف يظل واقفا وساخرًا وهو يواجه موجات الامتعاض والسخط والكراهية. هو كتاب يساوي أطنانـًا من المجاميع الشعرية، التي يصر الشعراء على إصدارها رغم أنهم يعرفون، تمام المعرفة، بأنها سوف تباع بالوزن لمحلات الكرزات