-
/ عربي / USD
"بينه وبين البحر، اللغة لا لغة. تتعطل اللغة وهذا جيد" هذا جيد جداً، قال بدر الزرقا بغير كلام، فالصمت، في حينه، صلاة. إنني أصلي، كنت أصلي، في قلبي، عندما كانت تهب علينا العاصفة، والمركب يرقص فوق اللجة. نحن، الآن، فوق اللجة، إنما لا رقص. السفينة لا تمخر، مخترقة بعنف، جدار الأمواج، بل تنسكب، كأنما تنزلق على الماء، فاتحة فيه ثلماً كبيراً، على جانبيه رغاء الزبد، وأنا أتكئ على الحاجز، كأي سائح ابن أمه، يتعرف على البحر في سن الشيخوخة، ويختبئ في قمرته ما إن تهتز به السفينة اهتزازاً مريباً!" أمس كان يجلس على طرف حلقة من الركاب، فوق جؤجؤ السفينة. قالت فتاة خرنوبية، يابسة كعود على أرض غابة، أصلها من جونية، منطقة الكسليك: هذه أول مرة أركب فيها البحر، مع أن جونية جارة البحر. قال شاب طبوش: وأنا مثلك! قالت سيدة: المهم السلامة. أجابتها الفتاة الخرنوبية الضامرة: لا سلامة إلا على اليابسة وأكاد لا أصدق، من شدة الخوف، أن قدميّ ستلامسان الأرض مرة ثانية، وأنني سأعود إلى لبنان، أرض لبنان، والأرزة الخضراء.. قالت السيدة، لو كان من يطمئننا عن الطقس! قالت الفتاة: لنسأل أحد البحارة إذن. قال بدر: اسألوني أنا! التفت الجميع إليه باستغراب. قالت الفتاة الخرنوبية الناحلة: ولماذا أنت؟ ألست مسافراً مثلنا؟ نعم! وهذا من سوء حظي! تعني أن هناك خطراً ما؟ أعني أنني سائح مثلكم.. وفي البحر أيضاً. قالت السيدة: ألا تحب ركوب البحر؟. أحب البحر حين أكون أنا هو البحر.. حدّق الجالسون في الحلقة على جؤجؤ السفينة، في وجه بدر بمزيد من الاستغراب. لكنه قد أشاح بوجهه عنهم، وراح يتملى البحر، كأنما لا وجود لهم بالقرب منه..".
البحر والسفينة وهي... وهو، حنّا مينه ومدى من الخيالات... من التأملات... من الفلسفات التي عمرها بعمر صداقته مع البحر، عمر تماهيه في مداه العميق، الذي يمنحه رؤيا عميقة في ذاك الإنسان الذي يشابه البحر في تقلباته، في عمقه، في صفاته، وفي كدره، في صخبه وضجيجه وفي سكينته وهدوئه، في مده وفي جذره، في تمدد أمواجه إلى شاطئ الأمان وفي انحسارها إلى نقطة الضياع. إنها الإنسان في تشكلاته الحياتية هي مرسومة ضمن مناخ روائي سلس الأسلوب، عميق المعاني، دقيق العبارة، يتآلف القارئ معها ويضحي جزءاً منها كما البحر لحنّا مينه.
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد