إذا كانت إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي قد فرضت نفسها على الفكر العربي-الإسلامي منذ بداية القرن الماضي، فإنها عادت لتبرز مجدداً، وبقوة أكبر، خلال العقد الثاني من الألفية الثانية من القرن الحالي، نتيجة لمجريات الحراك العربي الذي نعته الكثيرون ب"الربيع الديمقراطي".لقد...
إذا كانت إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي قد فرضت نفسها على الفكر العربي-الإسلامي منذ بداية القرن الماضي، فإنها عادت لتبرز مجدداً، وبقوة أكبر، خلال العقد الثاني من الألفية الثانية من القرن الحالي، نتيجة لمجريات الحراك العربي الذي نعته الكثيرون ب"الربيع الديمقراطي". لقد عرفت أروقة الفكر سجالات ونقاشات مختلفة حول هذه الإشكالية وما يرتبط بها من مفاهيم مركزية كالدولة والهوية والديمقراطية والعلمانية مع الرواد الأوائل من أمثالرفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي محمد عبده وفرح أنطون وعلي عبد الرازق ورشيد رضا مروراً إلى المفكرين المعاصرين الذين ظهروا بعد منتصف القرن العشرين، بمختلف اتجاهاتهم، سواء المقول عنها "حداثية" أو الموسومة ب"الإسلامية". ومهما يكن من شأن الطابع الإيديولوجي الذي هيمن على مختلف المواقف والرؤى التي أنتجتها السجالات الفكرية بصدد مسألة الدولة، وافتقارها إلى الدراسات ذات الطابع العلمي والمعرفي الصرف، فإن جل الدراسات التي حاولت الوقوف عند قيمة تلك الإنتاجات وحدودها لم تنج هي أيضا من المقاربة الإيديولوجية، الأمر الذي فوت عليها فرصة الرصد الموضوعي لما تحقق من تراكم "معرفي" عربي – إسلامي بخصوص إشكالية الدولة. ولعل من أبرز تلك المسلمات التي تحتاج إلى نظر ومراجعة، المسلمة القائلة أن الفكر العربي الإسلامي قد عرف مساراً تراجعياً منذ عصر النهضة العربية الأولى إلى اليوم، وأن تصوره للعلاقة بين الديني والسياسي قد اتخذ توجهاً انحدارياً، في اتجاه المزيد من الانغلاق والتزمت والتقوقع على الذات والهوية، ونبذ ذلك الانفتاح الذي أبداه الرواد الأوائل على مظاهر التمدن والتحديث السياسي الأوربي. ولا شك أن الفكر الإسلامي عرف تطوراً تراجيدياً مع القوى الدينية المتطرفة التي تبنت شعارات سياسية تنبذ كل ما ابتكرته الحداثة السياسية من مفاهيم كالديمقراطية والعلمانية وحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها كونياً؛ لكن وإلى جانب هذه الحركات المتشددة ظهرت اجتهادات سياسية وفكرية، تنهل من المرجعية الدينية، وأبدت مرونة كبيرة في التعاطي مع تلك المفاهيم، وبذلت جهداً ملحوظاً في تكييف العديد من مبادئها وتصوراتها مع بعض المقولات الحداثية. ولأن مؤسسة أبحاث ودراسات "مؤمنون بلا حدود" قد قطعت على نفسها عهداً، وهو الانتصار ل"الإنسان بما هو إنسان"، فيما تقدمه من إنتاجات نظرية، فإنها مدركة تمام الإدراك أن هذه الغاية النبيلة لا يمكن تحقيقيها بتوخي الحيطة والحذر من السقوط في آفة الظلال الفكري، والتي يوجد في مقدمتها الظلال الإيديولوجي. هكذا، سيجد القارئ بين دفتي هذا الكتاب الذي تدشن به المؤسسة منشورات "سلسلةأبحاث مؤسسة مؤمنون بلا حدود"، والتي ستغطي عدداً من الإشكاليات الفكرية المعاصرة، مجموعة من الأوراق النظرية التي قدمت في ورشات علمية مختلفة، يعد القاسم المشترك بينها، لا وحدة الإشكالية فقط، ولكن، وهذا هو الأهم، رغبة أصحابها في مقاربة هذه الإشكالية مقاربة علمية موضوعية، متحررة قدر الإمكان، من مختلف مظاهر الأدلجة المهيمنة على ساحة نقاشاتنا الفكرية والسياسية الراهنة.