كان إيكو سيميائياً من طراز خاص، لم يقدّم خطاطات ونماذج تحليلية "تهدي" الباحثين و"تدلهم" على مكامن الحقيقة في الوقائع، بل بلور رؤية للعالم تتخذ من العلامات سبيلاً وحيداً إلى قول شيء ما عن حياة الإنسان في الأرض. فكانت تصوراته لكلّ الأنشطة الفكرية، في الإبداع والإنتاج المعرفي...
كان إيكو سيميائياً من طراز خاص، لم يقدّم خطاطات ونماذج تحليلية "تهدي" الباحثين و"تدلهم" على مكامن الحقيقة في الوقائع، بل بلور رؤية للعالم تتخذ من العلامات سبيلاً وحيداً إلى قول شيء ما عن حياة الإنسان في الأرض. فكانت تصوراته لكلّ الأنشطة الفكرية، في الإبداع والإنتاج المعرفي النظري، قائمة على فرضية وحيدة هي أن الأشكال الرمزية وحدها يمكن أن تكون منفذنا إلى معرفة ممكنات العالم الخارجي، فهي لا تكتفي بالتعيين والتسمية، بل تحتضن، فيما هو أبعد من الإحالات المرجعية المباشرة، كل ممكنات الوجود بكائناته وظواهره. وقد انطلق في معالجته لقضايا النصوص وقراءتها من تصوّر يرى في التأويل وأشكاله صياغات جديدة لقضايا فلسفية ومعرفية موغلة في القدم. فمجمل التيارات التأويلية التي عرفها القرن العشرون لا تفسر إلا بموقعها من "الحقيقة"، كما تصورها الإنسان وعاشها وصاغَ حدودها أحياناً في شكل قواعد منطقية صارمة، وأحياناً أخرى في شكل إشراقات صوفية واستبطانية لا ترى في المرئي والظاهر سوى نسخٍ لأصل لا يدركه الحس العادي ولا تراه الأبصار. فـ "التطرف" أو "الاعتدال" في التأويل لا يفسَّران بما يُقال في النص أو حوله، بل يجب البحث عن تفسير لهما فيما هو أعمّ وأشمل. يتعلق الأمر بالعودة إلى وقائع لها علاقة بموقف الإنسان من العالم والله والحقيقة والمعرفة وبناء الحضارات وتأسيس المدن وتعيين العواصم وتخوم الإمبراطوريات وتعدّد اللغات والثقافات.