إن الدراسة النقدية العميقة للتصورات المختلفة التي رسمها الغرب المسيحي في تفكيره حول الشرق، والشرق الإسلامي خاصة، تجد جذورها دائماً، وبشكل مثير، في إرث فلسفي ولاهوتي عتيق وقاتم، قائم في الجوهر على إفتراضات ذاتية مؤسسة عن سبق إصرار بدورها على بعض المعلومات الإنتقائية...
إن الدراسة النقدية العميقة للتصورات المختلفة التي رسمها الغرب المسيحي في تفكيره حول الشرق، والشرق الإسلامي خاصة، تجد جذورها دائماً، وبشكل مثير، في إرث فلسفي ولاهوتي عتيق وقاتم، قائم في الجوهر على إفتراضات ذاتية مؤسسة عن سبق إصرار بدورها على بعض المعلومات الإنتقائية دائماً والشوهاء غالباً، وخلاصة ذلك الإرث، إن الغرب كعالم متحيز ومركزية ذاتية، لم ينظر ولم يفكر بالشرق إلا بإعتباره "الآخر" أي "الغير" بل "الضد"، وبالتالي نسب إليه كل مثالبه هو ذاته، معتبراً نفسه كــ"ضدّ" هو أيضاً لذلك "الآخر"، ما أفضى إلى الإستنتاج بأن المركزية الذاتية الغربية تصورت الشرق وخاصة الشرق الإسلامي بإعتباره "الغرب مقلوباً"، وفي كل مميزاته وخصائصه ونواقصه كما لاحظ ذلك من قبل المفكر الفرنسي جان بول شار ناي. هذه الفكرة التي تخيلت الشرق الإسلامي والغرب المسيحي في موقعي عالمين متواجهين قدرياً في كل شيء تقريباً، ذهبت إلى أبعد من ذلك، أي إلى حدّ جعل التواجه بينهما منسحباً في الزمن ليغدو قبلياً من جهة؛ أي موازياً لكل تاريخ العالم القديم، أي كل التاريخ البشري، بالرغم من واقع إرتباط وجوده بلحظة ظهور الإسلام، كما تخيلته من جهة أخرى شاملاً لكل الحضارات والدول بالرغم من أن الأمر منحصر بحضارات الأبيض المتوسط ودوله وحدها كما يفترض. وإلى هذا فالشعور بالعجز عن مواجهة الإسلام هو الذي ساد مضمون صورة الشرق الإسلامي لدى الغرب المسيحي طوال الفترة بين آخر الحملات العسكرية الصليبية على الشرق الإسلامي في نهاية القرن الثالث عشر وبين عصر التنوير المبتدئ مع فشل آخر الحملات العثمانية على أوروبا الغربية في الربع الأخير من القرن السابع عشر والمنتهي بإنطلاق الحملات الإستعمارية الحديثة التي وظفت بدورها الكثير من قيم وأساليب وأسلحة الحملات الصليبية وأخلاقياتها. هذا ومع بزوغ عصر التنوير في أوروبا والذي يتفق مؤرخو الفلسفة الغربية تاريخ إنبثاقه في حدود القرن الثامن عشر الميلادي، وبشكل أدق في المسافة الزمنية الممتدة ما بين 1970م وقيام الثورة الفرنسية في 1789، التي يصطلحون على إعتبارها "بنت" فلسفة عصر التنوير. وتمثل "فلسفة التنوير" جوهرياً بتيار فكري جديد، ومتمرد، تملكته كليّاً نزعة عقلية ونقدية كونية إنسانية... وبذلك شهد الفكر الغربي تطوراً تجاه الثقافات الإنسانية... وبدأ المفكر الأوروبي، الفرنسي والألماني خاصته، يشعر بالتحرر من الموروث اللاهوتي - السياسي - المعرفي المتعلق بالحضارات الأخرى ولا سيما الشرقية. كما غدت الإستعانة بالشرق وعطاءاته الحضارية المختلفة، وسيلة مثلى لدى مفكري التنوير لدحض المفهوم الأكليروسي الذي كان يبدء مطلق الصدق والقائل بأن المسيحية هي الدين الحقيقي الوحيد؛ ومن جهة أخرى، كانت فكرة المساواة المطلقة بين البشر من الأفكار الأساسية التي قامت عليها وبشرت بها "فلسفة التنوير" داعمة إيا بما سمي بــ"الدين الطبيعي". هذه بكلمة الأسس والظروف التي استندت إليها "فلسفة التنوير" في معركتها للإطاحة بواحدة من أهم المسلمات المقدسة في الفكر المسيحي التقليدي، أي موقفه من الديانات الأخرى، لكن الإسلام خاصة كان وبإمتياز الدين الأجنبي، الذي تمحورت حوله تلك المعركة أكثر من غيره لسببين رئيسيين هما قوة الأوامر الروحية والثقافية بين العالمين الغربي المسيحي والشرقي الإسلامي بالرغم من حدة التصادم بينهما من جهة، والحضور الفعلي، المتواصل والحيوي، للإسلام في الحياة الأوروبية بيد أن هناك سبباً آخر لعب دوراً مهما في دفع مفكري التنوير إلى إختيار الإسلام أداة في صراعهم ضد طبقة الأكليروس، وهو متانة وعراقة التراث الفكري - اللاهوتي الذي دأبت الأخيرة على ترويجه ضد الإسلام. من هنا، تأتي هذه المحاضرات سعى من خلالها للوقوف على حجم وأبعاد جهد التنوير لتدمير ذلك التراث، فكان لا بد له من البدء من إعطاء فكرة عامة عن عناصره الجوهرية والمحطات الكبرى في صيرورته، وهو ما تم تكريس الفصل الأول له، مع التركيز على مضامينه النظرية وحدها في ثنايا هذه المحاضرات التي جمعها في هذا الكتاب لتقديم فهم فكري نقدي جديد، وأحياناً لأول مرة بالعربية، لمنجز عدد من أهم فلاسفة التنوير الأوروبيين في هذا الشأن، وفي إطار تطوره التاريخي وإعتماداً مباشراً على نصوصهم الأصلية، ومن دون السعي إلى محاكمة ذلك المنجز، أو محاكمة منظورات الفكر الغربي أو الإستشراق والمستشرقين حول الشرق والإسلام.