"أنا لم أخبرك بشيء من هذا قط، لأنك لم تكن تزورنا بحجة أو بدونها وربما لم تفكر في زيارتي في البيت الذي أصبح بيتي كما هو متوقع له أن يكون... قيل لي أنك تغيرت وليس من السهولة اللقاء بك، ولعل أغرب ما قيل لي، أنك لست موجوداً في أي مكان، بل اختفيت ولن يهتدي إلى طريقك أحد، وكل الذين...

"أنا لم أخبرك بشيء من هذا قط، لأنك لم تكن تزورنا بحجة أو بدونها وربما لم تفكر في زيارتي في البيت الذي أصبح بيتي كما هو متوقع له أن يكون... قيل لي أنك تغيرت وليس من السهولة اللقاء بك، ولعل أغرب ما قيل لي، أنك لست موجوداً في أي مكان، بل اختفيت ولن يهتدي إلى طريقك أحد، وكل الذين تحدثوا عنك إنما قالوا كلامهم عن طريق الآخرين، ولم يحصل لأحد منهم أن التقاك أو سمع صوتك أو تعرف على صورتك، بل تناقل الناس أخبارك بحكم عدوى السماع؛... بعضهم قال لي أنك رحلت بعيداً غير نادم على هجرانك أو رحيلك، وحالما اختفيت تلاشت الأخبار وانقطعت الأنباء، ولعل أعجب ما سمعته عنك أنك مجرد أكذوبة لا أساس لها من الواقع، مجرد وهم تلبس المحيطين بك، والأغرب من هذا كله، أنك لم تردّ على تلك الأقاويل التي ترسبت في روحي وعقلي وراحت تنهش فؤادي دون رحمة، ولما اضطررت إلى حمل صورتك معي في محفظتي الصغيرة، إنه شديد الشبه بالآخر الذي اختفى. ترى هل اختفيت عن عمد وقصد ونية مسبقة بإشغال الناس المحبين لك؟ ترى كيف يحق لمن ترسبا في الوجدان أن يختفي أو يضيع من أيدي محبيه. ترى ما الذي سأفعله بصورتك هذه؟ هل ألقيها في النهر وأودعها الماء الجاري أم أمنحها لطاهر هدية لكي يمزقها أو يلقي بها في أقرب إناء للفضلات، وهو لا يتورع من القيام بأفعال دنيئة كهذه، لذا حافظت قدر طاقتي على إخفائها عنه، لو شاهدها معي لجن جنونه، فأنا أعلم أنك نقيضه دون شكّ أو غبار على التناقض الشديد بينكما. حتى إسماعيل أخيا لم يعد يرغب في سماع أخبارك، وكلما ذكرتك أو جئت على سيرتك بحضرته يضحك ويقول ساخراً: آه غاندي، تقصدين الشيخ؟". عندما يرسم الروائي شخصيته المحورية واضعاً هالة من الغموض حولها، يصبح لدى القارئ مدى واسع يسرح فيه خياله، وخاصة إذا كانت تلك الشخصية شفافة مرهفة الإحساس تملك من الطهر والقداسية ما يجعل القارئ يتآلف معها واقفاً إلى جانبها كما فعلت أخت عزيز التي ما فتئت خيالاتها تحوم حوله بعد غيابه، تستجدي وجوده، وتستجدي روحه الغائبة الحاضرة معها المثول في وجودها من جديد. يأخذك الروائي إلى عالم تتصارع فيه القيم، وتتناقض فيه المبادئ، فالشر يعمّ، والفساد يرتع في مجتمع ليس فيه للأخلاق مكان. ينكر الأهل عزيز الأم الشقيق ابن العم، واصمينه بالمجنون حيناً وبالمختل أحياناً كيف لا وهو يتمسك بالمثل في حياته. لم يكن له من صنوٍ لروحه سوى أخته التي وبعد غيابه المفاجئ زوجها أهلها عنوة عنها غير آبهين لمصيرها الذي ستلاقيه.