"بعد أن ماتت فاطمة بقي أكثر من سنة وهو يراها في أحلامه. كان يحبها. لغة عشرات السنين. يكون سائراً في شارع من شوارع الشام، يحدق في الوجوه والبنايات، وواجهات المحلات فيراها فجأة أمامه، قامتها القصيرة وعينيها السوداوين، وتلك الابتسامة الحاذقة التي توجهها إليه، من بين الجميع...
"بعد أن ماتت فاطمة بقي أكثر من سنة وهو يراها في أحلامه. كان يحبها. لغة عشرات السنين. يكون سائراً في شارع من شوارع الشام، يحدق في الوجوه والبنايات، وواجهات المحلات فيراها فجأة أمامه، قامتها القصيرة وعينيها السوداوين، وتلك الابتسامة الحاذقة التي توجهها إليه، من بين الجميع يطير من الفرح. ها هي أخيراً، لم تمت، لم ترحل. يركض نحوها، يمد يديه إليها. يمسك أصابعها، يقبل سلامياتها وأظافرها وزغب ساعدها يرتفع إلى عينيها فيجدهما نديتين. إنها مشتاقة له. يعانقها وسط الشارع، غير عابئ بعيون المارة. ثم فجأة تضيع من بين يديه، ينظر يميناً وشمالاً، فلا يجدها، تختفي بين الجموع. يحس بالأسف لفقدانها، وقلبه يعتصر ويكاد يخرج من فمه، يحدق في الجهات فلا يراها، حينئذ يفيق من النوم، ويبكي، لكن رغم بكائه فثمة إحساس بالرضا يظل يملؤه طوال يوم أو يومين. ألم يرها ويتكلم معها ويلمسها؟ حتى لو كان ذلك في الحلم فقط، لا يهم، فقدان الألف مرعب. شخص تعود عليه المرء عشرات السنين، يختفي فجأة من حياته، هل يمكن تخيل الأمر؟ مرة كان جالساً على شاطئ نهر، وأمامه أمواج ناعمة وشمس دافئة وطيور وأشجار من الآثل والطرفاء والصفصاف، وكان ممتلئاً بمشاعر الحب والسعادة. رآها أمامه. لكنها تجلس على الضفة الأخرى، تجلس باسمة، وتلبس تلك التنورة الطويلة المشجرة، والكنزة المخرمة التي تكشف قيلاً من جيدها وشعرها الخرنوبي الذي يتهدل على حاجبها. إنها لم تمت إذن. نادى عليها فأومأت إليه... فما كان منه إلا أن نزع ملابسه وغطس في النهر. لم يصدق أنه سيصل إلى شاطئها. فرح هائل في داخله، ها هي أخيراً قد وجدها... كان بهذه الأفكار يجذف نحوها، نحو شجر الصفصاف والطرفاء والعشب الأخضر، ما كاد يلمس طين الضفة حتى فزع من نفسه. لم يكن هناك أحد، صحراء فقط، لا بشر في الجهات. وكان يرتدي ملابسه ويمسح دموعه بكفيه. اختفى النهر، واختفت زوجته، ورأى من خلال الضباب بقعة من الضوء وسط الظلام... هل مات رؤوف حقاً بسبب فاطمة... هل مات من العشق؟ من فراق الأحبة الذين سكنوا أحلامه؟ تلك الأسئلة وغيرها، شكرها مئات المرات. لم تصل الشلة إلى إجابة قاطعة".