كان إصطدام شعر أبي تمام بالمعيارية التي هيمنت على فكر النقاد والبلاغيين العرب إصطداماً عنيفاً ومباشراً، فإذا كان الوضوح والإلف وقرب المأخذ وسهولة التناول من أهم مقومات جودة الشعر لديهم فقد أخذ شعر أبي تمام بنصيب وافر من الغموض والغرابة والبعد والخروج عما جرى به الإلف...
كان إصطدام شعر أبي تمام بالمعيارية التي هيمنت على فكر النقاد والبلاغيين العرب إصطداماً عنيفاً ومباشراً، فإذا كان الوضوح والإلف وقرب المأخذ وسهولة التناول من أهم مقومات جودة الشعر لديهم فقد أخذ شعر أبي تمام بنصيب وافر من الغموض والغرابة والبعد والخروج عما جرى به الإلف والعادة، وإذا كانت السلاسة واللين والرقة والعذوبة من شروط فصاحة الشعر فقد لمس النقاد في شعره شيئاً غير قليل من الوعورة والحوشية والثقل وحزونة اللفظ وغرابته، وإذا كان المقام ومقتضى الحال يتطلب من الشاعر أن يحترز في شعره فيتجنب الألفاظ الزرية والمشتركة والمعاني الغامضة فإن أبا تمام قد صك وجه ممدوحه حينما جاء مدحه - في رأي النقاد - متنافياً وخطابه متجافياً.
إلا أن أشد الظواهر إشكالاً في شعره تلك التي تتعلق بجانب البديع، فقد كان لا يخرج عند النقاد والبلاغيين عن كونه ضرباً من ضروب الصنعة يتوسل به إلى تجميل الصياغة وزخرفتها وتزيينها بما يتوافر فيها من العناصر الجميلة كالإستعارة والطباق والجناس، ولذلك كان من أهم مآخذهم على أبى تمام أنه قد أكثر منها وأسرف فيها وبالغ حتى خرج عن عمود الشعر.
ومع ان أكثر نقاد العصر الحديث قد ذهبوا إلى أن أبا تمام عبقري ملهم وفي المقدمة من شعراء العروبة الخالدين فتح للشعراء والأدباء أبواباً من الفن الرفيع فكان القمة الشامخة التي بلغ إليها فن الشعر العربي، إلا أن جل أحكامهم عليه لا تكاد تخرج عن أحكام القدماء من حيث أنه حرص كل الحرص على جمال الصنعة الفنية فتتبعها وأسرف في تتبعها حتى خرج إلى المحال ووقع في التكلف.
ومن هنا، كانت الحاجة ملحة لإعادة النظر فيما اعتاد النقاد والبلاغيون عيبه على أبي تمام والتمثيل به على أنه من سقطاته وهفواته وفق منهج يتوخى تأصيل لغته الشعرية والكشف عن أبعاد الرؤية التي تتسلط على أبيات الشعر عنده فتحركها شكلاً ومضموناً حتى تخرج بها عما هو مألوف ومعتاد وتسمها بسمة الفرد والتميز والغرابة، وبالتالي إنصاف أبي تمام وإعطاء شعره قيمة حضارية تكشف ما يحتضنه من تجربة إنسانية خالدة تتجاوز حدود المكان والزمان وتستعلى على كل معيارية تحاول حصر الآفاق القصوى للرؤية الشعرية في بوتقة محددة تحديداً يتجاهل أشواق الإنسان وتطلعاته المترامية إلى اللانهائي والمطلق.
وقد سارت هذه الدراسة - وفق هذه التصور - في إتجاهين: أحدهما تاريخي تقويمي لموقف النقد والبلاغة من شعر أبي تمام، والآخر نقدي تحليلي لشعره.