استعان صاحب كتاب اللُّغة العربيَّة؛ مبناها ومعناها على تلك الكلمات والعبارات "الماورائيَّة"، بعلم اللُّغة الحديث، والدَّرْس الأسلوبيّ، وما يتيحه النَّقد الأدبيّ، وعلم السيميولوجيا، وكان يرجو أن يبلغ بتلك العلوم ما استكنَّ في تلك العبارات مِنْ دلالات لها شأنها وخطرها في...
استعان صاحب كتاب اللُّغة العربيَّة؛ مبناها ومعناها على تلك الكلمات والعبارات "الماورائيَّة"، بعلم اللُّغة الحديث، والدَّرْس الأسلوبيّ، وما يتيحه النَّقد الأدبيّ، وعلم السيميولوجيا، وكان يرجو أن يبلغ بتلك العلوم ما استكنَّ في تلك العبارات مِنْ دلالات لها شأنها وخطرها في قراءة العمل الأدبيّ، وكان الشَّيخ الجليل يدرك أنَّه إنَّما يَرُود طريقًا جديدًا في الفحص عنْ تلك العبارات، فعسى أن يَظْفر، بمحاولته تلك، بفَهْم يُدْنيه إلى الصَّواب، فإنْ لمْ يكنْ ما أراده فعسى أن يُفْتَح لغيره باب التَّأمُّل في هذا الحقل مِنْ حقول تراثنا العربيّ النَّفيس.
وحين أُتِيحَ لي أنْ أقرأ رسالة الدَّكتور سعود بن سليمان اليوسف عُرُوق الذَّهب: دراسة لجماليَّات النَّقْد الأدبيْ - استعدُتُ، مْن فَوْري، الدَّكتور تمَّام حسَّان، وبحثه البديع، وكأنَّما أَحَسَّ الشَّيخ أنَّ في هذه المسألة كلاماً لمْ يُقَلْ، بَعْدُ، أوْ كأنَّما شاء القَدَرُ أن يَدَّخِر البَسْط فيها لصاحب عُرُوق الذَّهب، فيُوسع تلك العبارات المجازيَّة الَّتي امتاز بها نقدنا العربيّ القديم، درْساً وفحْصاً وتفسيراً وتأويلاً، وأَحْسَبُ أنَّه، بكتابه هذا، جَلاَ لنا أمرين مهمَّين؛ أوَّلهما: سَطْوة التَّعبير المَجازيّ على المتكلِّمين، وآخرهما: أنَّ النَّقْد الأدبيّ جديرٌ به أن لا يتجرَّد منْ "أدبيَّته"، وأنَّ على النَّاقد الأدبيّ أن يُنْشئ "أدباً نقدياً"، متى ما أراد أن يكتب "نقداً أدبيّاً"، فهذا الضَّرب مِنَ الكتابة ليس بمستطيع أن يخرج عنْ طبيعته، تلك الَّتي عبَّر عنها أبو حيَّان التَّوحيديّ أجمل تعبير، حين وَصَفَ النَّقد الأدبيّ بأنَّه "الكلام على الكلام"، ونحن نسمع ونقرأ، كثيراً، أنَّ النَّقد الأدبيّ "نَصٌّ تَقْميشيّ" - وهذه عبارة مَجازيَّة! - وأنَّه إنَّما يُقيم بناءه على الإستعانة بمختلف العلوم، فكان فيه تَوْق ا لإنسان وشَوقه، وألمه وحُزْنه وبكاؤه، فإذا بهذا النَّقد - كما تقرأ في كتاب سعود - جِمَاع كلمات اللُّغة الإنسانيَّة، في جدِّها وهَزْلها، وفي تَديُّنها ومُجُونها، وفيه ما استكنَّ تحت طبقات اللٌّغة من مغامرة الإنسان، وحكمته، ونَزَفه، وطَيشه.
والحقُّ أن هذا ما أدَّاه إلينا كتاب سعود اليوسف، فكان كتابه "مغامرة" ماتعة، لا يُقْدِم عليها إلاَّ مَنْ أُوتي لساناً سؤولاً وقلباً وعَقُولاً، فجاء كتابه عُرُوق الذَّهب - وهذا عندي حقيقة لا مَجَاز فيها - لِيُذْكِرَنا بنقْد الرُّوَّاد، أصالةً، وفهماً، وبياناً، وأَحْسَبُ أنَّ القارئ الَّذي يشتاق إلى نقدٍ أدبيّ صحيح، سيُفْرِحه أن سيقرأ هذا الكتاب، ويعتدَّه مِنْ أثمن ما قرأ.