بما يشبه الحنين الروسوي للريف والتأفف المجازي من المدينة، يقرر عبده خال أن “المدينة تعلمك القذارة” وذلك في روايته “مدن تأكل العشب” وهو هجاء يتكرر بكثافة في الرواية المحلية مع معرفة الروائيي، المتحدرين من أصل قروي في الغالب، إن المدينة تغري الكائن وتجرؤه على كتابة...
بما يشبه الحنين الروسوي للريف والتأفف المجازي من المدينة، يقرر عبده خال أن “المدينة تعلمك القذارة” وذلك في روايته “مدن تأكل العشب” وهو هجاء يتكرر بكثافة في الرواية المحلية مع معرفة الروائيي، المتحدرين من أصل قروي في الغالب، إن المدينة تغري الكائن وتجرؤه على كتابة الرواية، وهي الكفيلة أيضاً، من الوجهة الإبداعية، بإنهاء ما يعرف بالتاريخ الشفوي، أو هذا هو مكمن النظرية التي تضع سحرية خطاب القرية، بعفة تداعياتها الثقافية الأخلاقية والاجتماعية قبالة خطاب المدينة، الذي يبدو بدوره مكشوفاً ومعقداً في آن كناظم للعلاقات الإنسانية، حيث تنتفي الكينونة وتصعد الحس الفرداني، فالولادة الجديدة للرواية المحلية مدينية بامتياز، وعليه فإن النصوص الروائية المتولدة لا تنفصل بحال عن تلك البنية الثقافية الأشمل، وعما تؤمّنه لها من فضاء ديمقراطي، واختبار حداثي أشبه بالصيرورة الدائمة.
إذاً، المدينة كانت ضرورة فنية وموضوعية، ليس كفضاء مكاني متخيل وحسب، ولكن كحاضن حياتي، تستشعر فيه الذات جملة من المعاني الإنسانية الحية عبر اللغة لامتصاص مركبات الثقافة اقبلية والقروية والفئوية والمذهبية، واختبار كفاءة الذات على حافة المعنى الأحدث للثقافة، بما يعنيه من التعدد والإقرار بالآخر، داخل حاضن مديني أوسع يتمثل في العولمة، التي تهب صوتاً لكل فرد مهما طالت إقامته في الهامش. وبموجب هذا التحول تمّ التخفيف من غلواء التهويمات الشعرية، واستثمار فرصة تاريخية ثمينة لصعود “الفردانية” كما أعلنها القصيبي في “شقة الحرية” والتعاطي الأحدث مع متطلبات الكتابة الروائية، رغم العناد الرومانسي الذي أبداه عبد الله ثابت في روايته “الإرهابي 20″ لمدينة “أبها” وإنكاره المجازي لما طرأ على قريته من تحولات دراماتيكية، بديالكتيك نفي مكتظ بالعبارات الشعرية “لا يليق بأبها إلا أن تكون قرية مهما ملأوها بأعمدة الضوء والبنايات والشوارع والإسفلتية والمتاجر والأسواق. إنها قرية على طريقة المدن، مثل الفتاة الريفية التي ألبسوها ثياب المدينة إلا أنهم لم يستطيعوا تغيير جسدها الريفي”.
هكذا تمّ تجاوز اللحظة الشفهية بتحريك مكامن المسكوت عنه، المحكي ضمناً، أو الراكد بسبب جملة من الاعتبارات الفنية والموضوعية، وعليه صار أنطاق ما يعرف بالتاريخ الشفوي أمراً ممكناً، من خلال ذات مهجوسة بالحضور عبر مدونات هي بمثابة الوثائق أو السجلات، كما تمثل في “ميمونة” تراوري مثلاً، حيث الانقلاب على “زمن الكليات المغلقة” والانتماء إلى “زمن الخصوصيات المفتوحة”. أي الذهاب إلى المجتمعية الفردية، والخروج من خرس مجتمعات ما قبل الرواية إلى المابعد الروائي، التي يشبهها “بيير كلاستر” بالكتلة الصماء، أو هذا ما يقرره بنقدية جارحة حين يقارب الكيانات البشرية التي تعيش عماها الحياتي وليس التعبيري وحسب.
والرواية تحدث في لحظة التحول، وتؤثر فيها بعمق عندما تعبر بوعي عن ذلك الانتقال التاريخي، فهي أكثر نظم التمثيل اللغوي كفاءة، بالنظر إلى ما تتسم به من حيوية وتنوع يسمح بتعدد وجوه التعبير عن الحقيقة، ولذلك تأصلت كخيار أدبي ينهض بالتحديث على مستوى المرجعيات الجمالية والمفاهيمية، فهي خطاب استحواذي على درجة من الاشتباك بالمنظومات الفكرية والعقائدية والأخلاقية ويتداخل فيها آخر طرازات السرد والتفكير الإنساني؛ بل هي الفضاء التواصلي الأصدق لتمثل شكل الحداثة الاجتماعية، وعليه جاء النص الروائي المحلي ليعمل ضمن وظيفة تمثيلية كاشفة لطبيعة الوقائع، من خلال رواية جديدة هي بمثابة نصٍّ أدبي متعدد الأبعاد، لا يتخفف بحال من المعنى الوظيفي للثقافة؛ وكأنها أرادت أن تشكل ضميراً متنوع الدلالات بتحريك جملة من المرجعيات التاريخية والاجتماعية، والتماس بنظريات ما بعد الحداثة التي تضع الاعتراف بالتباين والاختلاف والتنوع والتعدد شرطاً لتحديد معنى الثقافة. ضمن هذه المناخات يتناول الناقد العملية الروائية الحديثة أو فعل الكتابة التي أضحت المنعطف والأداة التي ينهي بها الوعي الفردي والجمعي سطوة التاريخ الشفوي.