يحاور ظمأ الروح "نقد ما بعد الحداثة" بطريقة مباشرة وأحياناً أخرى بطرق غير مباشرة. ولقد كان بودي أن أقول إن هذا الكتاب "يتحاور" مع ما بعد الحداثة بدل قولي إنه يحاورها نظراً إلى أن ما بعد الحداثة تلغي الطرف الآخر، والذوات، ورغبة التصادي التحاور. إن النص يغدو لديها الغاية...
يحاور ظمأ الروح "نقد ما بعد الحداثة" بطريقة مباشرة وأحياناً أخرى بطرق غير مباشرة. ولقد كان بودي أن أقول إن هذا الكتاب "يتحاور" مع ما بعد الحداثة بدل قولي إنه يحاورها نظراً إلى أن ما بعد الحداثة تلغي الطرف الآخر، والذوات، ورغبة التصادي التحاور. إن النص يغدو لديها الغاية والمنطلق، والبداية والنهاية. أما الانسجام والتوافق والمشاركة الوجدانية بين الإبداع والقارئ فتظل غايات زائدة أو نشازاً. لذلك لشد ما تظمأ الروح الحساسة في زمن العولمة، زمن الانفتاح وما بعد الحداثة. والفن من حيث هو محاولة للتعبير عن ذلك الظمأ واقع في محنة، فهو إما أن ينساق مع السائد الجارف ويقع في وهدة ما كان قد أسماه الفيلسوف الإسباني خوصي أو رطيغاً أي غاصيط بـ "لا إنسانية الفن"، وإما أن يصمد ويحتي ظهره للعاصفة كما حناه الطحلب في المثل الشهير. ولقد بدا لنا أن رواية "نقطة النور" لبهاء طاهر قد عرفت كيف تصمد من دون أن تستلم. إنها لم تدري كم ستطول مدة العاصفة، لكنها أدركت بذكاء فني كبير كيف تنحني وكيف تقاوم، وفي ذلك سر سموها وقوتها الجمالية. لقد حاولنا في هذا الكتاب النقدي أن نمعن في تشغيل جوانب من "حقل السمات" الذي نخوض فيه منذ سنوات نظراً لما له من صلات شديدة بمعيار الصورة. إن السمة إمكانية بلاغية بكل ما في كلمة بلاغة من أنماط ودلالات متحولة. وهي لا تقل خطورة جمالية عن مكونات العمل الأدبي المحكم الصنعة. إن سمات عطيل توازي في تأثيرها وخلودها وتأثير وخلود شخصية عطيل ذاته، وانسياقاً مع هذا التصور انتقينا عينات من السمات المهيمنة في رواية "نقطة النور" من بين سمات أخرى لا تقل بدورها بلاغة. ولقد تعمدنا أن نورد السمات المعنية بالنظر النقدي في صيغ تنكير نظراً إلى أن إدخال "أل" التعريف على "تدرج" أو "بساطة" أو سواهما من السمات من شأنه أن يخصص الكلمة ويجعلها سهلة التصنيف والترتيب، بينما نعلم جيداً أن خصائص إبداع بهاء طاهر تستعصي على التقنين الدقيق والحصر الأكاديمي، شأنها في ذلك شأن كل إبداع أصيل بل وشأن خصائص النفس الإنسانية ذاتها. لذلك اتسمت التحاليل النصية في هذا الكتاب بأساليب المراوحة والرجحان واستلهمام الذوق خوفاً من السقوط من جديد في فخ "بلاغة الأبواب" الذي تحاشينا منه طوال فصول هذا العمل. ولقد بدا لنا في المحصلة أن الروح عندما تظمأ تطلب أسلوب التأمل من أجل البوح والإعراب عما في الأعماق من هواجس ومكابدات. ثم حينما يتسلل الظمأ بعد ذلك إلى الفن وبالذات إلى عوالم الرواية الواقعية يغدو أسلوب التأمل شرطاً جمالياً ملحاً من أجل تحقيق التوازن التصويري المطلوب. هكذا سيجد القارئ نفسه إزاء إبداع نسبناه في هذا الكتاب إلى "الواقعية التأملية" ونعتناه بها. إنها الواقعية التي تلتزم في آن واحد بالخوض في موضوعات الحياة وبتصوير انعكاساتها على العقل والنفس تصويراً متأنياً. إنه إبداع طوماس مان وكنوط هامسون وبهاء طاهر وجون كويتزي وانغمار بيرغمان. بيد أننا جيب أن نعترف في نهاية المطاف بأن "الواقعية التأملية" التي رصدنا بعض تجلياتها في رواية "نقطة النور" قد أعدت تصورنا النقدي وأضحى تحليلنا نتيجة لذلك صدى لتلك الواقعية. وهذا نموذج آخر لتأثير الإبداع في النقد. ومن البين أن الإبداع الأصيل هو القدر على تحقيق مثل هذه الدرجة من التجاوب الدائن بين الرواية وقارئها.