"سعت الحركة الإنسانية إلى تغيير مسار سفينة الغرب الشرعية المحملة بالكنوز، حاولت أن تستبدل الآله بالإنسان وأن تضع البشر في محور الكون حاولت أن تؤلههم، كان طموحها أن تؤسس نظاماً على الأرض تسوده الحرية والسعادة، من دون أي دعم خارق من مجرى الحياة أو الطبيعة - نطاق بشرياً...
"سعت الحركة الإنسانية إلى تغيير مسار سفينة الغرب الشرعية المحملة بالكنوز، حاولت أن تستبدل الآله بالإنسان وأن تضع البشر في محور الكون حاولت أن تؤلههم، كان طموحها أن تؤسس نظاماً على الأرض تسوده الحرية والسعادة، من دون أي دعم خارق من مجرى الحياة أو الطبيعة - نطاق بشرياً بكليّته، أما التحدي الذي كان يواجهها ومعه الحداثة فقد عبر عنه بالرسومات أرخميدس في زمن مختلف كلياً وقال: "أعطوني مكاناً أقف عليه وسأحرك العالم أجمعّ، لوضع الإنسان في المحور، كان ذلك يعني أنه على هذا الإنسان أن يصبح نقطة أرخميدس التي يتمحور كل شيء حولها، إذ أن أي عالم من دون هذه النقطة يكون نسبياً فوضوياً، من دون توجيهات أو رموز أو معنى - عالم لا يمكن للبشر أن يعيشوا فيه وأن يبقوا عاقلين. ولكن، إذا أصبح البشر النقطة الثابتة في الكون، فهم بحاجة إلى شيء يقضون عليه لا يتحرك تحت أقدامهم، كان على الحركة الإنسانية أن تبنى على صخرة، كان عليها أن تُعيَّد من العدم شيئاً متيناً بقدر إيمان العهد الجديد الذي بإمكانه ان يحرك حبالاً. أما لوثر الذي كان حرسه في هذه المسائل قوياً والذي كانت معركة حياته برمتها في الواقع ضدّ الحركة الإنسانية وليس الكنيسة الكاثوليكية، فتمكن في أن يجزم في لحظة الحاسمة قائلاً: "هنا أقف أنا، لا يمكنني فعل أي شيء!"، في خيار لوثر للكلمات، كان يستهزئ بحقبته، والأهم بمناصري الحركة الإنسانية أمثال إيراسموس، ويتحداهم ليرى ما إذا كانوا سيتمكنون من إيجاد شيء يقفون عليه. كان يجدر رؤية التصدعات في صرح الحركة الإنسانية منذ البدء، كان الملاط لا يزال رطباً بين أحجار الأساس عندما ظهرت التشققات الطفيفة الأولى، رآها لوثر بعينه المدركة، وكتب ما أسماه "الإرادة المستعبدة"، وقد لمسها هولباين، وشكسبير أيضاً، ولكن في حالتهما كان ذلك في اللاواعي، وبالتالي تحت تأثير قوي معينة، وذلك سيكون فيما بعد واحدة من أبرز فرضيات هذا العمل، إذ أن الحركة الإنسانية كانت مقدر لها الفشل في عهدها، وإنها كانت تجعل في بذورها عناصر دمارها. لقد بينت صورة التقدم البشري أنها مقنعة جداً إلى درجة أنه كان على لوثر أن يبشر بظلام جديد، ظلام الإيمان، ظلام ليلة الإيمان الدكناء نجحت الحركة الإنسانية في بناء مدينة النور، واليوم حاضرة الثقافة هي التي في حطام، وليس الحاضرة نفسها. إن حكام الثقافة الإنسانية في تناقض تام مع مبناها المادي الذي كان ثمرة إندفاعها نحو المعرفة التي شقت طريقها في العلم والتكنولوجيا، وطُبّقت في المصانع، كان إنجاز الحركة الإنسانية الذي دام هو التمدن الصناعي وإنتصاره اللامع على معظم التجارب التي أنزلت به بفعل الضرورة الراسخة منذ القدم - الفقر والمجاعة والأمراض والأعمال الشاقة. وتمثل ذلك بالراحة المادية التي تنعمت بها المجتمعات الغربية في القرن الماضي تقدماً عظيماً في الخبرة البشرية، وهذا واقع يجب التسليم به، أي شخص بعقله الكامل سيقبل أن يتخلى عن المياه النظيفة وصون الصحة والمجارير والمضادات الحيوية... والحواسيب والطائرة النفاثة وناطحات السحاب... مقابل ما سبقها - قذارة القرون الوسطى الأوروبية - وعدداها ونتانتها؟. في 11 أيلول 2001، تغيرت هذه الخلفية، إذ أن هجوماً إرهابياً، عبر طائرة مسافرين مخطوفة، على أكثر مدن الغرب عالمية، المثال الأعلى على مقام حضارتها التقني وقوته - دمر ناطحتي السحاب الأطول في نيويورك، ونجح في قلب الفلسفة الإنسانية على إنتصارها المادي نفسه؛ لقد سخر أسامة بن لادن من أميركا على أنها "مخيم الكفر"، منادياً بأن ربه، الله، قد رفع السماوات من دون أعمدة، كان المعنى الدفين لهذه العبارة مسبباً للقشعريرة لدقة وضوحه؛ "إذا كانت الراحة المادية هي كلّ ما يهمكم أيها الكفار الغربيون، كما يشير هذان البرجان التوأمان الرائعان - عموداكم - إذاً سوف أحطم ثقافتكم. وفي تلك اللحظة، كما لو أن وتيرة إضمحلال الحركة الإنسانية العرضية قد حقنت بحقنة منشطة، هكذا يصور جون كارول الحضارة الغربية أو الإنسانية. ومن هنا يشكل تاريخ الغرب الحديث الروحي الموضوع الرئيسي في هذا الكتاب، يحاول المؤلف إبراز المساهمة التي قدمتها الحركة الإنسانية في بناء الحضارة الغربية كما نعرفها اليوم، وتتضمن هذه الإنجازات التي حققتها تحرر الفرد والديموقراطية والحقوق العالمية وإنتشار معالم الإزدهار ورغد العيش، أما سفراء هذه الحركة، منهم أبطال الثقافة المعاصرة من أمثال إيراسموس وهو لباني وشكسبير ونيلاسكيز وريكارت وكانْتْ وفرويد. أما هؤلاء الذين عملوا جاهداً لإحتواء كبرياء الحركة الإنسانية في إطار حقيقة أسمى من أمثل لوثر وكالفين وبوسان وكيركيفا، بالكاد تمكنوا من إيقاف التطور السريع لهذه الحركة وفي حين أنه تم إختبار هؤلاء الذين سعوا إلى تحقيق الإصلاحات - من أمثال ماركس وداروين ونيتشه - تنبؤاتهم الشخصية والنجاحات التي حققها هذه الأخيرة. إلا أن الكاتب كان يقف على النقيض مع أولئك لذا جاء كتابه هذا ليلقى الضوء على نسخة بديلة خطيرة ومتهربة عن الحضارة الغربية منذ أن عمل عصر النهضة والنزعة الإصلاحية على إيجاد وسيلة لإطلاق عنان المنطق والإرادة وتحرير إنسان خارق إلى الوجود. وفي هذا الإطار وبعبارة أخرى، فإن ما تناوله بأول في دراسته هذه هو نشوء الإنسانية ومرحلة قبل بلوغها أعلى مستوى بالإضافة إلى السقوط السريع نحو التناقض... إنها تجربة الغرب التي مر بها على مدى 500 سنة مع الإنسانية وتبعاتها الثقافية المريعة وحكاماً مع أحداث 11 أيلول 2001.