إن أبرز الخصائص الفارقة في الشعر الجاهلي، فيما يخص موضوع البطولة تحديداً، ظهور فكرة البطولة الجماعية؛ فالشاعر الجاهلي فارس ضمن مجموعة من الفرسان يعتلون صهوات الخيل ويجعلون سيوفهم في الرقاب.وفي شعر الصعاليك خصوصاً تتجلى فكرة البطولة الجماعية بوضوح، فهي تستأثر بمعظم...
إن أبرز الخصائص الفارقة في الشعر الجاهلي، فيما يخص موضوع البطولة تحديداً، ظهور فكرة البطولة الجماعية؛ فالشاعر الجاهلي فارس ضمن مجموعة من الفرسان يعتلون صهوات الخيل ويجعلون سيوفهم في الرقاب.
وفي شعر الصعاليك خصوصاً تتجلى فكرة البطولة الجماعية بوضوح، فهي تستأثر بمعظم المقطوعات القصيرة وبأجزاء كبيرة من القصائد الطوال، فمعظم الشخصيات التي تقدم من خلالها بطولات الشاعر الصعلوك تنتمي إلى نمط الشخصيات الثانوية؛ فهناك دائماً شخص آخر أو عدّة أشخاص يظهرون إلى جوار البطل الرئيسي "الصعلوك" يشاركونه في بطولته، ويساهمون، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في دفع الأحداث إلى الأمام.
هذا الشخص الآخر، الذي يساند البطل منذ أنكيدو وجلجامش، هو ما تصنعه هذه الدراسة بــ (الضدّ)، فالضربّة لا تعني الإختلاف مطلقاً، لكنها وصف يحدد موقع الآخر من البطولة ووظائفه التي يقوم بها خدمة للبطل الرئيسي؛ الذي ما كان ليصبح بطلاً لولا وجوده.
فالضدّ - وبحسب تصور هذه الدراسة - هو البطل الذي يتأخر دائماً إلى المركز الثاني في نصّ البطولة، وهو بذلك يساوي - في أبسط وصف له - بكل الظلّ الذي يتخذ منه البطل الرئيسي سلّماً يصعد درجاته نحو البطولة.
وإلى هذا؛ فالبطولة، دائماً ومطلقاً، تظلّ مرهونة بوجود الآخر (الضدّ)، وبالتفاعل القائم معه على مسرح الحياة، وهو تفاعل يتم تجسيده شعرياً عبر خطاطة القصيدة تجسيداً لا يطابق الواقع دائماً؛ وإن ظلّ الواقع مادته الأصلية.
والواقع أن منشئ النص (الصعلوك) هو من يحدد ملامح هذا (الضدّ) بتخصيص مساحة معينة له، قد تضيق وقد تتسع بحسب الوظائف التي يريد أن يقدمها للقارئ مشتغلاً بها، بما يخدم المعاني الجزئية والكلية للنصوص، ومن ثم فإن البحث عن هذا الآخر لا يمكن أن يتم خارج حدود لغة (الشاعر)، وإختياراته الوظيفية المقصودة.
من هنا، آثرت الباحثة في دراستها هذه - وهي توجه إهتمامها نحو البطل الضدّ في شعر الصعاليك - أن يكون مدخلها للتعريف بهذا البطل مدخلاً لغوياً بالدرجة الأولى، يقف عند الإختيارات الوظيفية لكلّ شاعر من الشعراء عينة الدراسة (تأبط شرّاً، الشنغري، عروة بن الورد) في محاولة الكشف عن التمايزات بينهم في أساليب تقديم هذا البطل الآخر.
وإلى هذا، فإن الدراسة بهذا التوجه تسعى جادة إلى تحقيق خصوصية التحليل الموضوعي لنصوص الصعاليك، بحيث تنطلق تحليلاتها من السمات الأسلوبية الوظيفية التي تقدم من خلالها الشخصيات الضدّ، مع الإفادة من المنهج الأسلوبي الإحصائي في الكشف عن تلك السمات وتحديد نسب تواتر كل اسم ومعيّن لغوي يمكن إستخدامه في رسم ملامح هذا الضد وترسم حدود وظائفه التي يشتغل بها داخل الخطاب.
أما أهمية الدراسة فتظهر في جانبين، هما: الأول: قلة الدراسات الأسلوبية حول "البطل الضدّ / بكل الظل" في الشعر عموماً، الثاني: قلة الدراسات الأسلوبية الوظيفية لشعر الصعاليك خصوصاً.
ومن ناحية أخرى، فإن هذه الدراسة تسعى إلى تحقيق الأهداف الآتية: 1-إستقراء دواوين الصعاليك الثلاثة للوقوف على إمكانتها اللغوية والأسلوبية المرتبطة بحضور البطل الضدّ، بغية الكشف عن الدور الذي يلعبه هذا الحضور الأسلوبي الوظيفي في لغة النصوص وتشكلاتها ودلالاتها، 2-الوقوف عند التجليات المختلفة للبطل الضد في قصائد الصعاليك، والكشف عن التباينات الحاصلة في أساليب تقديم الشعراء لهذا البطل، 3-الكشف عن دور العناصر اللغوية الوظيفية في توجيه الدلالات الجزئية والكلية في النصوص بطرق تحليلية موضوعية.
هذا وإن تحقيق هذه الأهداف يأتي من خلال إختبار فرضتيين هما: 1-إمكانية الإعتماد على اللغة خصوصاً، بوصفها الركيزة الأولى في البناء الشعري، من أجل الكشف عن الخصائص الأسلوبية المرتبطة بحضور بعض المضامين الوظيفية في النصوص الشعرية بما يمنح النصوص خصوصيتها الأسلوبية، 2-إمكانية التباين بين الشعراء الصعاليك في الإختيارات اللغوية المرتبطة بوجود هذا العنصر الوظيفي (البطل الضدّ) في نصوصهم الشعرية، والوقوف على التباينات والتمايزات الأسلوبية في توظيفهم لهذا المضمون في النصوص.