ما هو مؤكد، أن النشاطات الإسلامية ليست كلها بالضرورة ذات استراتيجية سياسية، فمنها ما ركنت إلى تأصيل العمل التديني التقليدي أو السياقي التعبدي في الأمة لتفصل بين الحلال والحرام. ومنها ما زادت هذا الأمر توسيعاً فعمدت إلى ممارسة تأصيلية سعت من خلالها إلى إشاعة الإسلام بوصفه...
ما هو مؤكد، أن النشاطات الإسلامية ليست كلها بالضرورة ذات استراتيجية سياسية، فمنها ما ركنت إلى تأصيل العمل التديني التقليدي أو السياقي التعبدي في الأمة لتفصل بين الحلال والحرام. ومنها ما زادت هذا الأمر توسيعاً فعمدت إلى ممارسة تأصيلية سعت من خلالها إلى إشاعة الإسلام بوصفه هوية ثقافية، وجعلت من مفهوم الثقافة الإسلامية أنموذجاً إرشادياً في استراتيجيتها ليزاحم -هذا الأنموذج- النماذج الأخرى في ظل صراع الثقافات أو تواصلها، في حين آثر غيرها من الحركات الانخراط في عمل إسلامي مؤسساتي هدف إلى ربط الإسلام بمجمل المتغيرات العلمية والمعرفية الجديدة إيماناً منها بأهمية أن يتواصل الإسلام مع تطورات العصر الجديدة. وهذا يعني أن مفهوم النشاطات الإسلامية لا يقتصر في معناه ودلالته على العمل الإسلامي السياسي أو التعبدي أو الثقافي أو التأصيلي فقط، إنما يتسع ليتضمن كل عمل إسلامي من شأنه تكريس الهوية الإسلامية في الأمة. ومن هنا، يبدو لي أن مفهوم "العمل الإسلامي" يتضمن أغلب المفاهيم الأخرى التي تندرج ضمن فضاء التكريس الهوياتي للإسلام في الأمة والعالم، وهو المسوغ المنطقي والتداولي الذي يجعلنا نميل إلى استخدام هذا المصطلح في معرض دراستنا لجذور العمل الإسلامي في العراق الحديث. في هذا الكتاب، لم يعني بالتكريس التعبدي أو التثقيفي التقليدي وبجملة النظام الفتوائي المنظم للحياة الروحية للمجتمع والأمة، وهو عادة تكريس سياقي مفروغ من وجوده وديمومته وفاعليته، إنما سيعنى بداية، بالتكريس المعرفي الذي سوغ للوعي الفقهائي أن يتوسل نظاماً معرفياً -فقهياً عزز بفاعلية رؤية الفقيه العقلانية في الأمة، ونظرته المفكر فيها بالعقل كأداة إلى الأمة، وعلاقة الأولى بالثانية من خلال الانتصار للاتجاه الأصولي مقابل الاتجاه الأخباري نهاية القرن الثامن عشر. وهو ما سمح لهذه العلاقة أن تتخارج إلى الواقع الموضوعي أو الخارجي، وتتفاعل مع متغيراته وشروطه وتحدياته لتؤثر في مصائره وتحولاته وفي آفاقه، وتعيد إنتاج علاقاته من جديد. كذلك سيعنى بالتكريس السياسي الذي أبداه الفقهاء بمعية الأمة في مفهومها الإسلامي، كخيار لمواجهة التحديات الخارجية والداخلية، وهو التكريس الذي حاز على أولوية كبيرة ومهمة في مسار العمل الإسلامي بالعراق من نهاية القرن التاسع عشر حتى عشرينيات القرن الماضي، وهي الفترة التي تم في كتابنا هذا معالجتها تاريخياً ونقدياً مقارناً إلى حد ما. في دائرة هذا التكريس تم فحص التطور التاريخي لظهور "العمل الإسلامي الجماعاتي في العراق، والتطور نفسه المتعلق بنمو الجوانب التنظيمية في تشكلاته، أي استقراء أوضاع التحرك الإسلامي، الأولية والبسيطة، عندما تمظهرت في "تكوينات جماعاتية منظمة ترتبط بهرمية قيادية متساوقة" في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومن ثم متابعة نموها وتحولات خطابها، خصوصاً عندما أصبح العمل الإسلامي، وبسبب تراكمية النزعة التنظيمية وإطرادها فيه، أكثر انزياحاً نحو التشكل المؤسساتي كهيئات وجمعيات وحزبيات وحركات في العقدين، الأول والثاني، من القرن العشرين. لما كان هذا الكتاب هذا يحمل عنواناً يبدو رئيساً هو "الفقيه والأمة" فإن المؤلف في سياق معالجت للتطورات التاريخية للعمل الإسلامي في العراق الحديث كشف، بين ثنايا مفاصلها، عن أدوار الفقهاء المعرفية والفتوائية، وعن تمثيلهم للبعد السياسي وتصريف شروطه وضروراته ومعطياته في مجالات العمل الإسلامي اليومية والتداولية لمواجهة التحديات التي عرضت لأحوال الأمة في تلك المرحلة. ولما كان هذا التصريف عبارة عن محاولة لترجمة الفكر الفقهائي-السياسي إلى عمل محايث وملموس في المجتمع، فإن كل ذلك، ضمناً، كان قد استبطن شكلاً من أشكال التجسيد الأيديولوجي، حسب تعبيراتنا المعاصرة، كان الفقهاء قد كرسوا حراكه في خضم الصراع السياسي بل والتصادمي بين القوى الاحتلالية والاستعمارية التي اجتاحت الأمة في خلال المرحلة التي اهتم بها هذا الكتاب. وفي مقابل ذلك تابع مسارات الاستجابة المجتمعية لمشروع الفقهاء السياسي أو بمعنى آخر استجابة الأمة لنداء الفقهاء في الدفاع عن بيضة الإسلام ومقدرات الأمة شرعياً، تلك التي كانت المخططات الاحتلالية والاستعمارية تزحف عسكرياً وثقافياً تحو جغرافيتها لمصادرة خصوصيتها وكيانها الهوياتي المستقل.