الشعر الحرّ أسلوب جديد في استعمال وترتيب التفاعيل التقليدية، التي تتكرر منها البحور العربية الستة عشر. وإذا كان الوزن في البيت التقليدي أساسه البحر، فإن الوزن في الشعر الحرّ أساسه وحدة التفعيلة. وحول بدايته تقول نازك الملائكة: "كانت بداية حركة الشعر الحرّ في سنة 1947 في...
الشعر الحرّ أسلوب جديد في استعمال وترتيب التفاعيل التقليدية، التي تتكرر منها البحور العربية الستة عشر. وإذا كان الوزن في البيت التقليدي أساسه البحر، فإن الوزن في الشعر الحرّ أساسه وحدة التفعيلة. وحول بدايته تقول نازك الملائكة: "كانت بداية حركة الشعر الحرّ في سنة 1947 في العراق ومن العراق؛ بل من بغداد نفسها. زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله أو كادت" وقد ذهبت في مقالة لها إلى أنها رائدة الشعر الحرّ وأن أوّل قصيدة حرة هي قصيدتها (الكوليرا). وقد أثار ادعاؤها نقاشاً بين جماعة من الأدباء على صفحات مجلتي الأديب والآداب. وقد أيدها في ذلك فريق منهم الدكتور جلال خياط. لكن كاظم جواد قال: إن أول محاولة جدية في الشعر الحر قام بها بدر شاكر السياب في قصيدته (السوق القديم). وقد ردّ السياب على تلك الحملة يقول: "هناك حقيقة لم يبق مجال لكتمانها وهي أن الشعراء العراقيين الذين كتبوا على طريقه الشعر الحرّ لم يتأتروا خطا نازك الملائكة ولا خطى باكثير وإنما تأتروا خطا كاتب هذه السطور من حيث الشكل وفي الوسع إثبات ذلك". وكيف ما يكون الموضوع فإن الذي لا شك فيه هو أن هذا اللون من الشعر كانت بدايته في العراق، وأن كلاًّ من نازك الملائكة والسياب من الرواد الأول للشعر الحرّ. وما يهمنا في هذا المجال الحديث عن بدر شاكر السياب الذي هو مدار البحث في هذا الكتاب. فقد كانت القصيدة في شعر السياب تبعاً لمراحل تطور فنه الشعري. ولعل أروع مراحل فنه، تلك التي أطلق عليها المرحلة الواقعية، وهي الحقبة التي أنتج فيها ديوان أنشودة المطر. وإذا كانت أغلب قصائد هذه الحقبة تتسم بالبناء المحكم، فإن أغلب قصائد الحقبة الرومانسية في مطلع حياته لم تكن تتسم بذلك. إلا أن هذه المسحة من الرومانسية، لم تفارق شعر بدر في مراحله المختلفة، وإن بدت فيه بشكل أو بآخر خصوصاً في قصائده المتأخرة. لكنها لم تكن لها الصفة المتميزة أو الغالبة. ولكنها أخذت تتعمق في نفسه إلى أن تفتحت في قصائده المتأخرة حين استقامت له الأداة، فجاءت هضبة قوية شديدة الانفعال بالغة الحزن. لقد كانت طريقة السياب في الأداء فذة ومعبرة بصدق عن كل المؤثرات التي تعرضت لها روحه القلقة المرحة. ففي شعره موسيقى ترتاح لها النفس ويهتز لها الوجدان. إن هذا الإيقاع الموسيقي لا تشعر به إلا حين تقرأ القصيدة بصوت مسموع؛ ذلك لأن السياب قد وفق كثيراً في إيجاد نوع من التلاحم والانسجام بين الإيقاع واللفظ. وقد اهتم السياب باللفظة، وما تختزنه من نغم وموسيقى تنتظم حروفها. فإن لفظة (مطر) حين يستعملها السياب في قصيدته (أنشودة المطر) يدرك ما فيها من إيحاء وقوة تتفجر منها الحياة، بما تحتويه من معنى ومن انسجام ورقة. إن لفظة (مطر) فيها سحر بدائي، وقد يعطي تكريرها في القصيدة وقعاً.