يعدّ كل من مصطفى كمال أتاتورك والملك عبد العزيز آل سعود، اللذين ظهرا على الساحة السياسية، من أكثر المؤثرين في تاريخ بلادهم (تركيا والمملكة العربية السعودية) في بداية القرن العشرين، فقد ظهر على الساحة ملك جديد للمملكة العربية السعودية، ألا وهو الأمير سعود بن عبد العزيز آل...
يعدّ كل من مصطفى كمال أتاتورك والملك عبد العزيز آل سعود، اللذين ظهرا على الساحة السياسية، من أكثر المؤثرين في تاريخ بلادهم (تركيا والمملكة العربية السعودية) في بداية القرن العشرين، فقد ظهر على الساحة ملك جديد للمملكة العربية السعودية، ألا وهو الأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود، المدوّن في الوثائق الرسمية تحت اسم سعود الأول. والواضح أن دوره لن يكون مشابهاً لوالده نمر الصحراء، ولو أن الرجلين يتشابهان بالوجه والقامة؛ فإن الشرق قد تهدلت معالمه بين ولادة الأب ومجيء الإبن، ولم يقتصر الوقت على جيل واحد، بل تعده إلى أجيال متعددة، برزت منذ الحقبة القروسيطة، وما من مكان آخر، شهد تسارع هذا التاريخ المثير، والسعودية لم تعد لتتوحد بل أصبحت قائمة، والنفط بحدّ ذاته مادة للإستكشاف فهو يسيل ليل نهار. وغالباً ما كان يردّد الملك الراحل عبد العزيز، المدفوع بأولى إنطلاقة حكمه المباركة: "إذا ساعد الله أولادي كما فعل بي فسيتحكمون بأكثر من مليون مؤمن"، ولكن هل ستحقق هذه الأمنية؟ إذ إن هناك العديد من الأشياء قد تبدلت منذ الحقبة التي وجدت منها. ففي ذلك الوقت كانت السعودية تشكل مع اليمن الجزء الإسلامي الوحيد، غير الخاضع لأي حكم أجنبي ومنذ ذلك الحين، بدت كل من ليبيا وسوريا ولبنان ومصر والسودان وتونس والمغرب والأردن والعراق بلاداً متحررة، هناك أشياء قد انطلقت، وأخرى اتخذت مساراً لها، فالسلالة السعودية لم تعد مقصورة فقط على التمتع بالإستقلال والقدرة على التباهي أمام الدول الإسلامية الأخرى، أضف إلى تزايد الشعوب التي بدأت ترفع صوتها. وهذا لم يكن في الماضي سوى لحن واحد، نقيّ وتناغم مع مجموعة الرمال المترامية الأطراف، قبل أن يصبح أشبه بتعدد أصوات كثيفة، أو مجموعة من الآلات المتنوعة التي تصبح في جو من المناداة والإستجابة، وبفضل هذا التناغم والتنافر؛ نراها تتغلب على صمت العصور الماضية بثروتها وحجمها وتعقيداتها، ولعلها تختلف أيضاً لجهة إن تاريخ الشرق لا يكن إختزاله وحصره بمصير واحد وفردي، بل هو عصر المنافسة المفتوحة بين رؤساء الدول حيث يتخاصم كل واحد مع جيرانه لضمان صولجان السطوة السياسية. لقد أدرك النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن الرؤساء السياسيين الكبار ليسوا سوى أدوات لإرادة خارجية، منتخبين يدعوهم الله تعالى أو يرفضهم تبعاً لمشيئته، وقد ورد في القرآن الكريم (هكذا هي الأيام نداولها بين الناس)... ولن تعطيها لشخص واحد؛ ولكن إلى كل الشعوب تباعاً. إن التاريخ الحالي للشرق الأوسط يوضح هذا المبدأ؛ فهو يعبر من بلد إلى آخر، ويمر بالتناوب من الرياض إلى القاهرة، ومن الشام إلى بغداد، ولكن المسيرة إلى الأمام لا تستمر طويلاً، ففي الفترات الإنتقالية لا يرتكز تقدم الشعوب على إستمرارية الإرادة السيادية، بل عن طريق دفعات متعددة ودائمة؛ وغالباً ما تتحقق عبر مسارات سرية أو عمل جماعي؛ غامض وصلب، بحيث يقال إن الدينامية العميقة لها تأثير حاسم، أقوى من الحدث المنظور أو الخطاب الشعبي، ولكي نفهم هذه الظاهرة بكل أبعادها، فعلينا ألا نكتفي بمضاعفة مستويات التحليل أو تعداد زوايا الرؤيا؛ فإن مجال الرؤية نفسها يتبدل دون إنقطاع، وعلى المراقب أن يلحق به، ولهذا السبب فإن كل الأعمال التي كتبتها لا توازي العذاب الذي عانيته في إصدار هذا الكتاب... ضمن هذا المنهج التاريخي التحليلي الشامل يأتي هذا البحث التاريخي المعمق الذي يأخذ بعين الإعتبار، وبالدرجة الأولى، سيرة الملك سعود التي شكلت في أبعادها ومحتوياتها وإستقراءاتها تاريخاً للشرق في عصر النهضة، كان من الصعب، والحال هذه، على المؤرخ الفرنسي بنوا ميشان تحديد زمان ومكان البدء وحتى الإنتهاء، لذا وجد نفسه مرغماً في سياق العمل على توسيع بقعة تحرياته، والإلتفات إلى دول لم يكن قد تحدث عنها من قبل، إذ كيف له فهم وتحليل الأحداث التي عاصرها الملك سعود، معنى حلف بغداد على سبيل المثال، كيف له فهم ذلك الحلف خارج إيران وباكستان إلى غير ذلك من الأحداث التي اقتضت منه توسيع بحثه هذا، ولكنه وعلى الرغم من تقيد بالمحيط الضيق لمدينة الرياض التي تحدّها صحراء نجد منذ زمن بعيد؛ فإن نظرته إلى الشرق الواسع والكبير لم تتوقف أبداً، والتي قد تزامنت في بعض الأحيان مع حدود المملكة العربية السعودية، وهما هي المحمولة دوماً بالقوى التي يمكن ملاحظتها، فتراها تمتد تدريجياً نحو الربع الذي يتجه من الإسكندرية إلى الخرطوم، والسفوح الواقعة في "البروز" عند تخوم نهر الأندوس. ويرى الباحث أن سعود الأول في هذا المشهد العظيم بدا قادراً على تولي القيادة على غرار والده الملك عبد العزيز، وفي بقعة ضيقة من صحراء المملكة العربية السعودية، وأنه لمن المستحيل أن يجمع حول شخصيته حقائق متنوعة وعديدة كالتي تملأ صفحات هذا الكتاب الذي على الرغم من أنه يحمل اسمه، فهو يشكل جزءاً من سيرته، ويختلف عنها من جوانب متعددة، ومع ذلك فقد حظي سعود الأول بمكانة يحسد عليها، وكيف يمكن له أن يكون غير ذلك؟!!!. ملك تمتد سلطته على المدن المقدسة في المدينة المنورة، ومكة المكرمة، والتي تعتبر قلب الإسلام، ولو أن عليه يبدو أقل إثارة من والده، أو أنه يشبهه في كونه بؤرة للأحداث والتقلبات المبهرة؛ فإن شخصيته المرموقة أشبه بخيط ذهبي قصير يعبر في نسيج أنيق ليضمن وحدة تكوينية...