تمثل دراسة التاريخ الإقتصادي والإجتماعي أحدث الإتجاهات العلمية السائدة في حقل الدراسات التاريخية، وقد جاء ظهور هذا الإتجاه إستجابة للتحولات العلمية والفكرية التي واكبت عصر النهضة في أوروبا، حيث أتجه مفكرو هذا العصر إلى الدعوة لدراسة العوامل الأساسية الفاعلة في التاريخ...
تمثل دراسة التاريخ الإقتصادي والإجتماعي أحدث الإتجاهات العلمية السائدة في حقل الدراسات التاريخية، وقد جاء ظهور هذا الإتجاه إستجابة للتحولات العلمية والفكرية التي واكبت عصر النهضة في أوروبا، حيث أتجه مفكرو هذا العصر إلى الدعوة لدراسة العوامل الأساسية الفاعلة في التاريخ وإستخدام العقل والمنهج التجريبي كوسيلة للوصول إلى الحقيقة التاريخية. ولقد قدر لهذه التوجهات الجديدة في دراسة التاريخ أن تسود الساحة الثقافية في الغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، وأن يظهر في مختلف الدول الأوروبية مؤرخون وفلاسفة تاريخ كبار يؤسسون لدراسة التاريخ على أسس إقتصادية وإجتماعية وحضارية. وكان من الطبيعي أن تتأثر الحركة العلمية في العراق وبقية الأقطار العربية بهذه التطورات الفكرية التي ظهرت في الغرب، وكان في طليعة أولئك المتأثرين عدد من الاساتذة الرواد الذين واصلوا تعليمهم العالي في الجامعات الغربية وكان من أبرزهم في حقل دراسات التاريخ العربي الإسلامي الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري، والأستاذ الدكتور صالح أحمد العلي، والأستاذ الدكتور جواد علي، وقد برز تأثير هؤلاء المؤرخين بروزاً واضحاً في مجال البحث والتدريس منذ منتصف القرن العشرين، ولا زال مستمراً حتى الوقت الحاضر. وهذا الكتاب هو الذي بين أيدينا هو من ثمار هذا الإتجاه (الإقتصادي والإجتماعي في دراسة التاريخ العربي الإسلامي)، كما أن مؤلفه الأستاذ الدكتور نجمان ياسين هو أحد ألمع المؤرخين المجددين الذين ظهروا في إطار هذا الإتجاه في الربع الأخير من القرن الماضي. حيث حاول الدكتور نجمان في العديد من مباحث هذا الكتاب أن يوسع ويعمق المعطيات التي قدمها المؤرخون الرواد في مجال التاريخ الإقتصادي والإجتماعي، كما سعى في بحوث أخرى إلى البحث عن جذور الإتجاه الإقتصادي والإجتماعي في التراث التاريخي العربي. ويولي الدكتور نجمان إهتماماً كبيراً لمساهمات المقريزي في مجال التاريخ الإقتصادي والإجتماعي وبخاصة في كتابه (إغاثة الأمة بكشف الغمة)، حيث يعرض على صفحاته أخبار سنوات الجدب والقحط، ونقص المياه، والآفات الطبيعية التي حلت بمصر، ويحلل غلاء الاسعار والتضخم "مُقَرِراً أن هذه الجماعات والمحن مرتبطة بأسباب مشخصة، وأنها ليست قدراً لا يمكن الفكاك منه، إذ يرفض الإستسلام الجبري، ويأخذ بمبدأ السببية، موضحاً أن ما تحدثه الطبيعة يمكن أن يتجاوزه الإنسان الذي بمقدوره تحاشي المجاعات أو الكارثة الطبيعية بالتخطيط والتصرف المستند إلى معرفة الأسباب والدوافع". ويختم الدكتور نجمان دراسته التأصيلية لإتجاه التاريخ الإقتصادي والإجتماعي، فيشير إلى أربعة أسماء كبيرة من أساتذة التاريخ الإقتصادي الرواد، إثنان منهم عراقيان وهما: الدكتور عبد العزيز الدوري، والدكتور صالح أحمد العلي، وإثنان منهما مصريان وهما: الدكتور محمد عبد الحي شعبان، والدكتور أحمد صادق سعد.