لعل خير من وصف شعر نفسه، حين تحدث عن الشعر بعامة، هو حيدر محمود نفسه، إذ يقول: والشعر بسيط مثل الخبز، عميق مثل الحزن، رحيب مثل الحرية. فالخ... بز بسيط ولكنه ضروري لاستمرار الحياة، والحزن الرقراق غير العميق لا يلبث أن يتبدّد دون أن يخلف في النفس أثراً، والحرية ظله فسيحة تسع...
لعل خير من وصف شعر نفسه، حين تحدث عن الشعر بعامة، هو حيدر محمود نفسه، إذ يقول: والشعر بسيط مثل الخبز، عميق مثل الحزن، رحيب مثل الحرية.
فالخ... بز بسيط ولكنه ضروري لاستمرار الحياة، والحزن الرقراق غير العميق لا يلبث أن يتبدّد دون أن يخلف في النفس أثراً، والحرية ظله فسيحة تسع الأرض ومن عليها، وقد يبدو لأول وهلة أن البساطة لا تقارن العمق، وأن العمق لا يقارن السعة. ولكن إن فهمنا أن الشعر يتطلب بساطة في التعبير هذه الصفات الثلاث تعيش متساندة، وباجتماعها معاً يكون الشعر الجميل..
يتنقل حيدر محمود، بحرية ودون عناء، بين الشكل العرب الكلاسيكي للقصيدة والشكل الحديث، وهو في الحالين واثق من نفسه ذلك لأن اللغة طيعة تحت سن قلمه، فهو يشكل كيف يشاء مستخدماً أحياناً ألفاظ من اللغة الدارجة ذات إيحاءات لا تغني عنها بدائلها في الفصحى، وإذا كانت طواعية اللغة تشبه طواعية العجين، فنحن لا نزال أيضاً مع صورة الخبز الذي يمثل البساطة. ولكن طعم هذه القصائد ليس كطعم الخبز الطبيعي العادي، لأن الشاعر يزرزر في تضاعيفها كميات عير قليلة من مادة لاذعو كاوية، إنه يرش ملحاً على الجراح-جرحنا نحن- قيماً تنضح سخريته بألمه الذاتي..
إن دراسة متأنية لشعر حيدر محمود تستطيع أن تكشف عن عدة محاور: محور زمن السقوط، ومحور الاطمئنان إلى البيت، ومحور اللابيت (أو الغربة). وهذه المحاور متصلة، وهيمنة الأول فيها هي المسؤولة عن تولد المحورين الآخرين، والتناقض بين الثاني والثالث منها تناقض طبيعي، فالغربة واللاغربة كلاهما موجود في النفس كقطبي المغناطيس بحسب حركة الجزر والمد في كيمياء البنية الإنسانية، ويبسط المحور الأول على شعر حيدر ظلاً وارفاً مديداً، لأن طبعه بطبيعته يجد راحته في السخرية ولأنه يستطيع، في هذا المجال، أن يلمح المفارقات (التي تسعف على السخرية) وأن يستثير الغرائب والأعاجيب المتمثلة في انعكاس الأشياء في الكون.. وحين لا تعود هذه المحاور مصدر إلهام يعود حيدر إلى ملاذه الأخير لينجو من غربته، من انكساره، من هزيمته، من قلقه: وأنت يا الله/في رفّة النسمة، في دمدمة الإعصار/ وفي قرار الموج، في تلاطم التيار/والماء أنت، النار أنت، الليل والنهار/وأنت في المكان، والمكان أنت/وفي الزمان والزمان أنت.