يصدر كتاب خالد للمرة الأولى باللغة العربية بعد مرور 75 عاماً أو ثلاثة أرباع القرن على صدوره في نيويورك باللغة الإنجليزية (1911). وإذا كانت الدراسات والأبحاث التي تناولت عمال الريحاني وآثاره الفكرية قد قفزت في معظمها عن متناول كتاب خالد أو مرت به في أحسن الحالات مرور الكرام ومن باب أخذ العلم بوجوده، فالأمر بات يختلف الآن والمجال صار أوسع من أجل استكمال الصورة والنظر إلى أمين الريحاني من زاوية جديدة في ضوء كتاب خالد. فالأفق الفكري الريحاني يستعيد الكثير من أبعاده الأصلية ورحابته من خلال المراحل النفسية والتثقيفية التي يمر بها خالد المهجري والتجارب التي يعيشها دون أن يتخلى عن أصالته أو أن ينقطع عن جذوره وينابيعه في تراب الوطن. والمعضلات التي تواجه خالد ليست بعيدة أو غريبة كما يواجه مجتمعنا اليوم، وبعد مرور خمسة وسبعين عاماً على صدور الكتاب.
لقد هاجر خالد إلى أميركا وتاجر، لكن المسألة لا تقف عند هذا الحد. فالمهاجرة كظاهرة يعاني منها مجتمعنا منذ أواخر القرن الماضي تبدو لنا في حياة خالد كمحطة بارزة في مسيرته الفكرية وشخصية المتنامية إبان الإقامة في ديار الاغتراب. ولا يقتصر الأمر على التجوال في شوارع نيويورك "متنكباً الكشة" سعياً وراء الرزق لكي يستحق أكلة المجدرة بعد عناء النهار، إلى سرعان ما يضيف خالد إلى مكتبته الثقافية وإلى ثقافته الشخصية، وإلى ديوان أبي الطيب المتنبي الذي حمله معه من أرض الوطن، كوكبة وفيرة من الكتب والآراء والنظريات التي واكبت تطوره النفسي، واسهمت دون ريب في تكوينه الفكري. وكلما عصف به الحنين إلى الوطن، عمد إلى إحراق الكتب المستعملة وأطعمها لنار المدفأة في قبو اغترابه المحاصر بالرطوبة والبرد والقصف وإلى جانب البعد الفكري من مداه الأوسع، حيث يجسد خالد في شخصيته وآرائه إحدى معضلات الأدب النهضوي المتميزة بمسألة تحديد العلاقة بين الشرق والغرب أو تأصيل الموقف الفكري من التحدي الغربي في شتى مظاهره العلمية والابتكارية والصناعية، ثمة بعد سياسي لا يجوز إغفاله أو إسقاطه من النظرة الشاملة التي تتجلى في الفصول الأخيرة من الكتاب. فانطلاقاً من الفصل المعنون "الاتحاد والترقي" يطالعنا البعد السياسي والتاريخي للمجتمع الذي عاد إليه خالد في أعقاب الانقلاب العثماني وإعلان الدستور. والريحاني يشير بطرحه إلى العام 1908 و1909، مثلما يؤرخ لحكم السلطان عبد الحميد الثاني. وإذا كان خالد في القسم الأول من كتابه قد عاشت التجربة الديمقراطية ودفع المهر أو الدوطة في مغتربه الأميركي، فإنه عند نهاية المطاف، وبعد أن قطع شوطاً بعيداً في رحلته الاستكشافية والتحرر الوطني من الحكم الأجنبي، لا بل يحدوه الأمل في قيام وحدة الشعوب، فيضع التصوّر المنشود في قالب الحلم (حلم الامبراطورية). ومن الملاحظ أن التحول الذي استحوذ على قعل خالد وقلبه طرأ في أعقاب هجرته الداخلية وتنسّكه وعزلته.