-
/ عربي / USD
تقبع هناك ورائي، في إحدى غرف تلك البناية، قرب شجيرة الظل بطيئة النمو، تتأمل وجهها في مرآتها الصغيرة، واضعة آخر اللمسات على زينتها، في حين تقبع أمامي، على بعد مئات الكيلومترات، فاجعة لن تستطيع زينة الدنيا كلها التخفيف من بشاعتها... مفارقة ليست وليدة اللحظة بالتأكيد، فها أنذا أتذكر جولاتنا الطويلة في شوارع بغداد، عقب انتهاء عاصفة الصحراء وإعلان وقف إطلاق النار، بأدق تفاصيلها.
كنت كمن يتلمس، بأنامل راجفة، جسده بعد نجاته من زلزال مدمر قلب الدنيا رأسا على عقب، بحثا عن أي جرح أو نزف فاته التنبه إليه في ذروة الفاجعة. كانت كل عمارة مصابة بقذيفة.. وكل نصب تذكاري شوهته الشظايا.. كل جدار مال على جنبه متهدماً.. حل سقف انبطح ملتصقاً بالأرض.. كل منشأة صناعية تعطلب عن أداء مهمتها.. كان كل ما خلفته الحرب وراءها من دمار، في كل حي من أحياء بغداد - سواء في الكاظمية أو الأعظمية أو الوزيرية أو باب المعظم أو السنك أو الباب الشرقي - جرحاً ينزف ملء روحي.. لم أكن أبكي بطبيعة الحال، إنما أشعر بأن ما يجري في عروقي محض دموع لا دماء، وكانت أسماء تشاركني تألمي دون شك.. يحمر أنفها المرهف انفعالاً، وتترقرق الدموع في عينيها السوداوين. لكنها لم تفتها ملاحظة الأزياء الجديدة وهي تزهو على أجساد المانيكانات المنتصبة برشاقة خلف الواجهات الزجاجية.
كنت على ثقة من أن سائق أبيها سيمر، بعد يوم أو يومين، على تلك المحلات ليقتني لها ما أثار إعجابها,
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد