-
/ عربي / USD
حينما يقف القارئ حيال مؤلفات الكاتب الروائي الروسي العظيم فيودور ميخائيلوفتش دورستويفسكي، يطالعه مشهد عجيب. فهو أمام كاتب قد يلمح بعض الهنات في فنه وأسلوبه، وقد يخالفه في بعض نزعاته المذهبية، واتجاهاته الفكرية، ولكنه ومع ذلك، يشعر معه وكقارئ، شعوراً قوياً بأن هذا الرجل لا يستطيع الإمساك عن الكتابة، والتوقف عن تسجيل الخواطر التي تعاورت وتكاثرت عليه، والعواطف والأحاسيس التي جاشت بها نفسه واستبدّت به، وغلبته على أمره، والتجارب المرّة التي مرّ بها وخاض غمارها، بل يخيّل له بعد قراءته أن قوى مجهولة قد سيطرت على شخصيته ولم تترك له الخيار، فهو مرغم على الخلق الفني خشية أن يسحقه ضغطها. والظاهر أنه كان مقدراً له من أول نشأته وطالعة أمره، أن يفتح عينيه أو ما يفتحهما على مناظر البؤس والشقاء والألم. فقد ولد في مستشفى للفقراء في موسكو في عام 1821، كان يعمل فيه أبوه طبيباً جرّاحاً. وكان وهو طفل يقضي فترة العطلة الصيفية في كوخ صغير على مقربة من مدينة تولا الواقعة على نهر الدون، وقد أتاح له ذلك فرصة لقاء المزارعين الروس الفقراء ومخالطتهم والتحدث إليهم، وتمثل هذه الحقيقة عنصراً هاماً من عناصر نموّ شخصيته وتطور تفكيره، فقد ظلّ طوال حياته شديد الحرب على هؤلاء القدم البسطاء، وبقيت هذه الانطباعات الباكرة نضرة في ذاكرته، وكان وقعها عليه ظاهراً في أعماله الروائية، التحق بعد تلقيه قسطاً من التعليم في موسكو، بكلية المهندسين، وقد شعر بالعزلة، إذ كان معظم الطلاب من أبناء الأعيان والأشراف، فوجد متعة بالانصراف إلى القراءة، فقرأ لكتاب فرنسيين وألمان. إثر تخرجه من الكلية التحق بإحدى الوظائف الحكومية، ولكنه لم يطق احتمال تكاليفها، فتركها بعد عام من التحاقه بها، وقرر أن يعيش للأدب، وأن يحصل على قوته عن طريقه، ومنذ ذلك العهد تبدأ سلسلة متاعبه وأزماته المتوالية التي استمرت طوال سني حياته، والاضطرابات العصبية والعلل الجسدية والنفسية التي لم يحرره من أسارها إلا الموت.
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد