نهلتُ من هذا الكتاب السهل الواضح والمفيد علمياً وعملياً، والذي تعتبر قراءته ضرورة لا بدّ منها لكل صاحب طموح بأن يحمل صفة باحث علمي أو كاتب رصين، إ... ن الغاء التقديس المنهجي صفة ملازمة لتقدم البحث العلمي، كشّفها وظهّرها الزميل الدكتور حسين دياب، فلهذا الكتاب ربط منهجي...
نهلتُ من هذا الكتاب السهل الواضح والمفيد علمياً وعملياً، والذي تعتبر قراءته ضرورة لا بدّ منها لكل صاحب طموح بأن يحمل صفة باحث علمي أو كاتب رصين، إ... ن الغاء التقديس المنهجي صفة ملازمة لتقدم البحث العلمي، كشّفها وظهّرها الزميل الدكتور حسين دياب، فلهذا الكتاب ربط منهجي تاريخي وطرائق تطوره لمحاكاة لزوم العصر. وإذا كانت حالة الندم المستمر للعلم تعطيه دفعاً لتطوره نجد في دمج المناهج والخروج عنها في تجاوزها وحتى إقصائها بالفوضوية المناهجية عملية خادمة للإضطراد العلمي. ولعل ما يرمي إليه الكاتب في تحويل النظرة من: المنهج سيد البحث العلمي لأن يكون هذا المنهج خادماً لما يقتضيه التطور العلمي لهدف خدمة الإنسان. فيوضح الكاتب أن علم المناهج (Methodologies) عرف تطورا كبيرا نتيجة لتطور أنواع المناهج واستعمالاتها المتزايدة، وبتزايد حركة البحث العلمي وتنوع مجالاته، فازدادت أهمية هذا العلم وتعددت المناهج وتنوعت الاختصاصات العلمية، لنجد في العلم الواحد استعانة بمناهج مختلفة بحسب ما يقتضيه موضوع البحث multidisciplinarite)). فعلم المناهج هو الذي يبحث في مناهج البحث العلمي والطرق العلمية التي يكتشفها ويستخدمها العلماء والباحثون من أجل محاولة الوصول إلى الحقيقة. لكن التوسع المضطرد في الميادين العلمية دفع بالاتجاه وصولاً إلى البحث عبر المناهج وتجاوزها (transdisciplinarite).
وبحسب د. دياب، إذا كانت مناهج البحث العلمي هي الطرق المؤدية إلى معرفة الحقائق والكشف عنها في مختلف العلوم وذلك بواسطة مجموعة من القواعد والقوانين العامة التي تنظم سير العقل حتى يصل إلى نتائج معلومة، فإن علم المناهج هو العلم الباحث والدارس لهذه المناهج العلمية (وإن كانت الايبستيمولوجية هي الآوالية التي تتدخل لتصوب ذاك العلم وتلك المنهج). وإذا كان التقدم في البحث العلمي رهن بالمناهج والطرائق، نجد في نقص التطبيق انتكاس لمسيرة البحث وعشوائية الحصائل المعرفية (لتصبح غير علمية). فيشير الكاتب لمنطلقات أربعة يبنى عليها البحث المنهجي:
المنطلق الأول: وهو منهج البحث العلمي، الذي يأخذ طابع العمومية والإحاطة بمجموعة القواعد العامة للبحث والاستدلال والحكم التي تعمل طبقاً لها كل العلوم.
المنطلق الثاني: المناهج النوعية، التي تتعدد وتختلف باختلاف وتعدد العلوم، والتي تلتزم بطبيعة البناء المنطقي لكل علم.
المنطلق الثالث: وفيه ارتباط الطرائق المنهجية بالتقنيات المستخدمة، للإحاطة بالمادة العلمية وزيادة القدرة على التحليل والشك والنقد، ذات الهدف التوصلي إلى علوم وابتكارات جديدة.
المنطلق الرابع: وفيه الفوضوية المنهجية، فبعد التطور العلمي والتقني غير المسبوقين، وبعد السعي إلى وحدة العلم (وتداخل العلمي بالإنساني) بهدف خدمة الإنسان، تداخلت المناهج بالمنطق الفيرباندي لتقول (وما الضير إذا انتجت الفوضى علماً). فالنظرة الإكتشافية العلمية بدأت تعدل مسار انطلاقها مما هو جليّ وواضح لتطويره، إلى الانطلاق من مكامن الضوء الخافت في العلوم لإجلائه وتوضيحه (والهدف العلمي في نتائجه وليس في مناهجه).
وفي مأرخة هذا العلم يقول: نشأ علم المناهج وازدهر بعد عصر النهضة في أوروبا، وتحديدا في القرن السابع عشر الميلادي، على يد جماعة كبيرة من العلماء والفلاسفة، وأول من استعمل كلمة (علم المناهج) أو (المنهجية) هو الفيلسوف الألماني "ايمانويل كانط" (1724-1804)، وذلك عندما قسم المنطق إلى قسمين: مذهب المبادئ الذي يبحث في الشروط والطرق الصحيحة للحصول على المعرفة، وعلم المناهج الذي يهتم بتحديد الشكل العام لكل علم وبتحديد الطريقة التي يتشكل بها أي علم من العلوم. وقبل السالف ذكره كان لفرانسيس بيكون (1561-1626)، وهو أول مفكري عصر النهضة الذين أكدوا أهمية استخدام المنهج الاستقرائي بغية الوصول إلى القوانين. إلى أن تصاحب مع رينيه ديكارت (1596-1650)، أهمية الجانب الرياضي للعلم، وكان لكتابه (مقال في المنهج) اسهامات في وضع قواعد المنهج الاستدلالي، فالنتائج تستنبط من مقدمات واضحة تماما للعقل، مما يجعله على يقين أنها تصلح أساسا لكل معرفة ناتجة عنها. وكان كذلك اسهامات منهجية ل- فيخته (1762-1814) ووليم جيمس (1842-1910) وغيرهم من العلماء والفلاسفة.
بدأ الخروج المنهجي مع بول فايرباند (1924-1996)، وأهمية طرحه لمبدأ الفوضوية المنهجية واعتبارها ركيزة التطور العلمي المستقبلي (بينما المناهج الكلاسيكية تأخذنا إلى الماضي)، إضافة إلى اعتماده مبدأ اللامقايسة كركيزة إشكالية وبنائية في خدمة تطور العلوم.
يولف الكاتب أن للبحث هدف يُقام على أساسه، وليس البتة في توقع عائد أو جني الأرباح لمن امتهن، فهذه المهنة تتطلب إنكاراً للذات والامتناع عن استغلال العلم من اجل الإثراء المادي. إذ أن المعرفة العلمية على علاقة وطيدة بالنزاهة والحياد والموضوعية، وهذا ما يتجلّى بالروح الفاحصة والناقدة دون تدخل الأهواء، لأن مسيرة العلم لا تتوقف، وتتخطى وقائع ذات الأهمية من العصور السالفة لتقف أمام وقائع جديدة أكثر شمولاً من سابقاتها. وإذا كانت الانطلاقة من نقطة وصل إليها الغير صحيحة ومجدية بنظر الكثيرين، قد تكون البداية من مجهولية علم (لم يتطرق إليها سالف) تُنتج وتُصوّب وتنتقد وتحوّل المسيرة العلمية إلى مظهر وضعي فيه من الأهمية لخدمة العلم ولخدمة الإنسان.
عند إمعان النظر بالمعرفة العلمية (فيها وإليها) نجدها محملة باللاتناهي من الاحتمالات. وإن الأخذ بالقيم النسبية (لا المطلقة) والاحتمال (لا القطع) والتقريب (لا الحكم)، يوضح لنا قيماً حكمت مسيرة العلم وأخرى تمثّل ما ينبغي أن يكون عليه العلم. وإذا كانت خاصية العلم على علاقة بتاريخ العلم (الذي هو جزء من ذاته)، نجد نتائج العلم على علاقة بمستقبل العلم (الذي هو جزء لذاته).
فوجد في الخاصية التراكمية (بمفهومها الكمي) تكشّف لطبيعة الحقيقة العلمية (التي هي مطلقة بنظر البعض) النسبية، لأن علم اليوم قام على تراكم الأمس الذي يضاف إليه علمية جديدة ليصبح علم الغد، يعني ما هو نهائي اليوم هو غير مستقر وسرعان ما يُستعاض عنه برأي جديد في الغد، من حيث أن محتوى العلم غير ثابت، بل دينامي وفي حالة تطور وتغيير دائمتين، وهذا ليس عيباً أو انتقاصا علمياً إنما تعبيد لمعقولية العلم بهدف محايثة اليقين (لا لبلوغه).
أما الخاصية اللاحتمية، التي قال فيها انها تقدم فرصة لتصوب أخطاء العلم، بمعنى أن نتائج العلم تصوب نفسها باستمرار (فلا إطلاقيه في اليقين العلمي، بل ان اليقينية تكمن في التصويب المستمر للخطوات وللنتائج العلمية). من حيث ان مبدأ اللاحتمية يجعل طريق التقدم العلمي مفتوحاً، ويجعل البحث سائلاً دوماً عن الجهود والتدخل، فلا يقين علمي ونتائج بحثية نهائية يُركن إليها. أوليس الكمال في العلم ثبات حركته؟ بالتالي إعلان موته، وأن التدخل عليه وتشذيبه يدلّ على إعادة إحيائه وحيويته واستمراريته.
وللكاتب نظرة عبرمناهجية تقول، إذا كان ما نحن فيه يأخذ بالبعض لتسميته بالانقلاب المعرفي، إلا أن السياق التطوري والتراكمي لجهة التلازم أو المحاكاة لروح العصر يفسّر عبور المناهج والميادين العلمية من الاسس إلى الأهداف العلمية والمعرفية، فمن الكيفية التي تحكم العلاقة بين الكواكب (مثلاً) إلى كيفية استخدام واستغلال الطاقة الموجودة بين تلك الكواكب. من حيث أن ظهور الفيزياء ما تحت الذرّية سيؤدي الى انقلاب معرفي ليغير كل المسلمات التي عهدتها البشرية، ستتجه الإنسانية نحو اللافلسفة، أي البنى المتشظية لكل الفلسفات، الأمر الذي سيغير البنى الفكرية المعهودة، ويقدم إستراتيجية قيمية جديدة لإدارة الهوية والقضايا والعلاقات بين الدول، وهذا ما يدفع لخلخلة الثوابت والمسلمات والتأثير على مكانتهما في الحياة المستقبلية .
فإن استشراف المستقبل لعالم يضج بالأزمات والعنف لا يكون إلا عبر فهم البنى الفيزيائية العلمية التي مهدت له، وكلها تقوم على "المنطق الكلاسيكي" التي أنتجها العقل اليوناني وفيما بعد استثمرها العقل العربي ومن ثم العقل الغربي، فأفرزت: الحتمية، المنطق الصوري، الجدلية، الثنائيات، اللوغوس، المادة والصورة. هذا النتاج الكلاسيكي يقوم على محاور قيميّة من أهمها: اختزال الكون الى منظومة ميكانيكية مؤلفة من مكونات أولية، واعتبار "العلم الوضعي" الطريق الأوحد الى المعرفة، والنظر الى الكائنات الحية والتعاطي معها كآلات، واعتبار الحياة المجتمعية صراعا تنافسيا البقاء فيه للأقوى (أو للأكثر صلوحية)، الأمر الذي سوّغ العنف وحول الكوكب إلى مملكة إرهاب، ومع بزوغ الثورة الكوانتية والثورة المعلوماتية تكون البشرية قد نحت منحى جذرياً في تطوير البناء المعرفي الذي قد يؤدي إلى انقلاب في المفاهيم.
وإن تفكيك البنى الفكرية المرتكزة على "المنطق الكلاسيكي" الأحادي المنبني على "الفيزياء الكلاسيكية" قدمت طروحات جديدة مبنية على مرحلة ما بعد الفلسفة حيث تبرهن الرياضيات المتقدمة على لا استقرارية النظم الفيزيائية القائمة على تموضع النقطة الهندسية في المكان والزمان، لذلك فان الكل يكون وحالة اللا استقرار هو أكثر من مجموع أجزائه، إذ يمكن استلهام أداوت فكرية استناداً الى الفيزياء الكوانتية من خلال أدوات مغايرة لا تستبعد الخبرة الروحية الموجودة في ملكة الوعي الكلِّي الأصيلة في النفس الإنسانية.
وباعتبار الكاتب أن الكائن الإنساني قد تمت "برمجته" من خلال الكم الهائل من المعارف المكتسبة المحملة بالإرث البشري على مر العصور بكل فلسفاته المتباينة وأديانه المتنوعة ومعتقداته المتبلورة، التي تؤكد عبر المنطق المتوارث ان البشر كائنات فردية منفصلة، تجاهد في صراع دائم منذ ولادتها كي تعيش بشكل أفضل ولا ينتهي ذلك إلا بالموت، وهذا ما تقبلته الإنسانية كلها!
وعنه أن هذا الصراع سوغ العنف وحمّل البشر أوزار القرون الماضية المثقلة بالجراح والخيبة والندم (وعن ديكارت: العلم في حالة ندم دائمة). وفي السياق عينه ان الخروج عن العنف لا يكون إلا عبر فهم الطبيعة الكلية لبنية العالم الخارجي والداخلي، فوعي الإنسان ليس فرديا بل هو وعي الإنسانية كلها.