”ظلام، فأحسست به يبحث عني. وبحثت عن مفتاح النور لأرى ما يحدث لي، فلم أجده. تعثرت بكرسيّ فأسقطتُهُ وأسقطني على ما لا أعرف. وكأعمى يرى بأصابعه الأشياء فتشت عن جدار أستند إليه، فارتطمت بخزانة، فتحتها… فلامست يدي ثياباً شممتها فعثرت على رائحتي. أدركت أني في حيّز من العالم...
”ظلام، فأحسست به يبحث عني. وبحثت عن مفتاح النور لأرى ما يحدث لي، فلم أجده. تعثرت بكرسيّ فأسقطتُهُ وأسقطني على ما لا أعرف. وكأعمى يرى بأصابعه الأشياء فتشت عن جدار أستند إليه، فارتطمت بخزانة، فتحتها… فلامست يدي ثياباً شممتها فعثرت على رائحتي. أدركت أني في حيّز من العالم يخصني، وانفصل عني أو انفصلت عنه. تابعت البحث عن مفتاح النور لأرى إن كان ذلك صحيحاً، فوجدته. تعرّفت إلى أشيائي: هذا سريري، وهذا كتابي، وهذه حقيبتي، وهذا الذي في البيجامة هو أنا تقريباً. فتحت النافذة، وسمعت نباح كلاب في الوادي. ولكن، لم أتذكر متى عدت، ولا أتذكر أني وقفت على الجسر. ظننت أني أحلم بأني هنا ولست هنا. غسلت وجهي بماء بارد، وتأكدت من يقظتي. سرت إلى المطبخ فرأيت فواكه طازجة، وصحوناً غير مغسولة تَدُلُّ على أنني تناولت العشاء هنا. لكن، متى حدث ذلك؟ تصفحت جواز السفر فأدركت أني وصلت اليوم، دون أن أتذكر أني سافرت. هل حصل فصام ما في ذاكرتي؟ هل انفصل وجودي النفسي عن وجودي الفيزيائي. خفت.. واتصلت بصديق في ساعة متأخرة من الليل: أعاني من وعكة في الذاكرة.. أين أنا؟ قال: أنت في رام الله. سألته: متى أتيت؟ قال: اليوم، وكنا معاً بد الظهر في حديقة كاتشي. سأله: لماذا لم أتذكر هل تظن أني مريض؟ قال: يحدث ذلك مع مرض من نوع آخر: مرض الحنين إلى النسيان!”. يوميات محمود درويش مجموعة نصوص تخلّلتها قصائد شعرية أسهمت جميعها في إغناء أعماله وفي إعطائها لوناً من ألوان التعبير المشرع القوافي، والمغرق في المعاني. تجربة تموج بمشاعر وبأحاسيس شاعر أبى أن تكون مرتهنة فأطلقها على سجيتها. يأخذنا محمود درويش في يومياته وعلى جناحي فراشة إلى حدود تجاوزت النفس إلى ما بعد النفس، في ذاك العمق من الكيان الإنساني هناك استشفافات إنسانية، لمحات فكرية، تأملات ووقفات، التقطتها الشاعر صاغها بلغة سلسة وبعبارات تلقائية ولونها بألوان المشاعر والأحاسيس التي لم يتجاوز أدق تفاصيلها. مبرهناً بأنه لا زال هناك متسع ومساحات للتعبير لدى شاعر لا تنتهي إبداعاته.