-
/ عربي / USD
من السهل جداً معرفة آراء الفلاسفة والمفكرين في شؤون الحياة وأحداث العصور التي عاشوا فيها، واستنباط ما كان لها من ردود فعل وانعكاسات على مرآة حياتهم النفسية والعقلية. ذلك لأن كل ما تركوه من آثار مكتوبة أو متداولة أو منقولة من جيل إلى جيل تكفي لتوضيح تلك الآراء، والوقوف على كنهها وقوفاً هو عين اليقين.
لكنه -ولا شك- من الصعب جداً أن يتخيل متخيل آراء أولئك الفلاسفة والمفكرين في شؤون عصر أو عصور تلت عصرهم الذي عاشوا فيه. لأن من يحاول ذلك أو يقدم عليه لا بد أن تتوفر فيه من المزايا ما لا يتسنى إلا للقليل النادر من الناس. فهو أولاً يجب أن ينفذ إلى أعماق نفس الفيلسوف أو المفكر الذي يتخيله منبعثاً في عصر غير عصره القديم، وأن يعرف من شؤون حياته وأحداث عمره كل ما ظهر منها وما خفي. وأن يكون لديه من سعة الخيال وصدق الحدس والتخمين ما يجعل حكمه كاليقين أو أقرب ما يكون إلى اليقين. ولا ننسى ما يينهما من التشابه في المزاج الفلسفي الذي ينشد الحقائق ولا يمل التفكير في كل ما تقه عليه العين أو يلمع في الخاطر من صور الكون الواقعية الملموسة أو التي تتوق النفس المتطلعة إلى تحقيقها ليزداد جمالاً إلى جمال ويتسنم ذروة الكمال.
وكل هذه المزايا التي ذكرناها نراها بارزة على أوضح ما يكون البروز في شخصية العقاد العظيم صاحب هذا الكتاب: "رجعة أبي العلاء" الذي شاء أن يتخيل أبا العلاء عائداً من عالمه الآخر إلى عالمنا في العصر الحاضر، ليبدي رأيه في كثير من شؤوننا العتيدة. فالعقاد أقدر وأعمق من درسوا أبا العلاء وكشفوا عن خفايا ذاته، ووصفوا مواهبه العقلية وذكاءه الوقاد ومزاياه الخلقية متبعاً في ذلك أسلوب التحليل النفسي الذي مارسه في دراسة شخصيات جميع العظماء الذين تناولهم بالبحث، وهو الأسلوب الذي قل أن يضاهيه فيه أحد من باحثي الشرق أو الغرب.
وقد كان مما يسر على العقاد الإصابة في تقدير الإجابات التي أجاب بها المعري على المسائل العصرية التي طرحت عليه هو ما بين المعري والعقاد من التشابه في حب الاستقصاء، والسعي وراء الحقيقة مهما بدت بعيدة المنال، والميل إلى التفكير والفلسفة، وإخضاع كل شيء للبحث والدراسة.
وليس لنا إلا أن نخيل القارئ إلى المعضلات والمسائل التي هي من هموم عصرنا الحاضر، والتي طرحت على المعري لإبداء رأيه فيها ليرى مدى ما في إجاباته من توافق مع نفسيته التي بالغ العقاد في تحليلها وكشف خفاياها. وليلمس براعة العقاد الفائقة في إظهار طوايا النفوس وما يعتلج في إخلادها من مشاعر متضاربة وانطباعات متباينة.
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد